شعار قسم مدونات

الإسلاميون في بيئة الصراع الدولي.. معالم أساسية (6)

blogs الدولة الإسلامية بالعراق

ما زلنا نستكمل ما يمكن أن يمثل محددات تقاطع الثورات العربية مع البيئة الدولية، ويعتبر أهم تلك العوامل والمحددات هي فكرة الدولة التي نعرفها وتشكل العالم الآن بحد ذاتها وإمكانية استمرارها. بمعنى كانت إحدى مشكلات النظام الدولي مع الكيان الداعشي والتي جعلته يتدخل مباشرة ضدهم هو أنهم يهددون البنية الدولية كلها وليس الأمن الإقليمي فقط، يعني ما فعله الدواعش أنهم اقتطعوا أجزاء من سوريا والعراق وسموها الدولة الاسلامية بالشام والعراق وبدؤوا التمدد على مساحات أوسع.

 

فالسؤال ما الذي يمنع تكرار ذلك؟ إذا تم السماح بتلك الحال أن تبقى ولم يتم الحيلولة دون ذلك ما الذي يمنع من تكرار التجربة؟ سواء في بيئة الصراع بالمشرق العربي -وقد حدث فعلا ذلك في محاولة الأكراد إعلان دولة على حساب التركة الداعشية بعد دحرهم من العراق- أو في أي بقعة أخرى من العالم؟!

 

كان هذا هو الذي يجعل التجربة الداعشية مهدد عالمي قبل أي شىء آخر، وخاصة أننا الآن نعيش في عالم ظاهرة الدولة بحد ذاتها لم تعد تلبي طموحات ومتطلبات من يعيشون في إطارها، لهذا سنشهد في الأعوام القادمة مزيدا من محاولات التحلل من فكرة الدولة مثل الذي حدث في إقليم الباسك في إسبانيا، وحتى التحلل من الأطر المنظمة لتلاقي الدول مثل تصويت بريطانيا على الانفصال من الاتحاد الأوروبي وعجز حل المشكلة البلقانية التي أنهت حرب البوسنة والهرسك بالتسعينيات على الاستمرار، الحل كان قائما على تقسيم البوسنة لثلاثة كيانات، واحد للمسلمين وآخر للكروات وثالث للصرب، ويتكون منهم دولة ولكن الواقع حاليا أن كيان الصرب تابع لصربيا وكيان الكروات تابع لدولة كرواتيا ويبقى كيان المسلمين عاجزا عن تحديد وجهته حتى الآن، فيبحث مثلا عن جذور تركية أو عبر وجوده ضمن الدائرة الأوروبية الأوسع أو حتى عمق خليجي!

 

ما إن تم إيجاد حالة فراغ وفوضى وخلخلة من ثقل الدولة الجاثمة على الأنفاس عبر الربيع العربي سرعان ما تسارع الناس إلى العودة إلى مكوناتهم الأولى كالطائفة والعرقية

وإذا كان هذا يشهده العالم كله فإن الأزمة بالعالم العربي أوسع وأكثر عمقا، بمعنى نحن نتحدث هنا عن الأزمة التي جعلت في ظرف الربيع العربي المكونات الفرعية للدولة العربية يكون عندها سؤال بديهي وهو لماذا نحتاج أن ننتظم في إطار اسمه الدولة العربية؟! يعني الشيعة لماذا يحتاجون أن ينتظموا في إطار اسمه العراق أو سوريا أو لبنان بينما إطار الطائفة يحقق لهم ذاتهم ووجودهم وما يرون أنه مصلحة؟ السنة لماذا يحتاجون أن ينتظموا كذلك في إطار اسمه العراق أو سوريا بينما انتظامهم في إطار مثل الذي أحدثته داعش يستطيع أن يحقق لهم وجودهم؟!

 

السؤال نفسه يتكرر عند الأكراد كذلك، وكما قال لي صديق كردي أنا ولدت ونشأت بسوريا بينما أمي وبيت أخوالي في تركيا، وما يفصل بين بيت أبي وبيت أخوالي ثلاثون كيلومترا فقط، فلماذا أنا مضطر ومجبر أن أسمى سوريا وأمي وخالي مضطران أن يتسموا أنهم أتراك؟ ولماذا أنا مجبر أن أتحدث معك بالعربية بينما خالي إذا تحدث معك سيضطر أن يتحدث بالتركية بينما لغتنا نحن التي تعبر عنا اسمها الكردية، ومن الذي وضع خطا فاصلا بين بيتي وبيت خالي وسماه حدودا ووضع عليه قوات حرس حدود ونقاط تفتيش، ولمجرد أن أزور خالي أحتاج إلى استخراج تأشيرة؟!

 

هذه العبارة التي قالها لي صديقي هي تعبر بالضبط عن إخفاق الدولة العربية وانهيارها، والتي ما إن تم إيجاد حالة فراغ وفوضى وخلخلة من ثقل تلك الدولة الجاثمة على الأنفاس عبر الربيع العربي سرعان ما تسارع الناس إلى العودة إلى مكوناتهم الأولى كالطائفة والعرقية.

 

وأزمة الدولة العربية ربما تعود إلى قرن كامل شهد العديد من الأحداث والتدعايات منذ تشكل الدولة العربية الأولى مع ثورة الشريف حسين تحت سلطة الانتدابين الفرنسي والبريطاني، ثم تشكلها الثاني في عصر ما بعد الاستقلال وصعود مد القومية العربية والناصرية في الخمسينيات والستينيات ثم زلزال هزيمة 67 ثم عواصف أخرى هبت على المنطقة العربية من حروب الخليج الأولى والثانية انتهاء لاحتلال العراق وما بينها من مجازر قام بها نظام البعث بسوريا والعراق، من مجزرة حماة إلى مجزرة حلبجه إلى قمع الانتفاضة الشعبانية الشيعية بالعراق، كل ذلك هو ما أدى في بالنهاية في تراكمه إلى الحال الحالية، ولم تكن هجمة الثورات المضادة للثورات العربية وحالة داعش إلا معول الهدم الأخير لكن بالنهاية كانت نتيجة حتمية ما ستؤول إليه تلك الدولة العربية.

 

الانتفاضة الشعبانية بالعراق (مواقع التواصل)
الانتفاضة الشعبانية بالعراق (مواقع التواصل)

كمثال بسيط لفهم الحالة الشيعية الحالية بالمشرق العربي وخاصة بالعراق، فعلينا أن ندرك أن شيعة العراق كان رهانهم على الدولة القومية العربية على حساب المذهب لما نجحت الثورة الإيرانية وحسموا هذا الرهان بأنهم وقفوا إلى جانب دولتهم وقت الحرب العراقية الإيرانية أو حرب الخليج الأولى وكذلك وقوفهم بجانب دولتهم حاسما وقت اجتياح العراق للكويت، ولكن مع ذلك فالتفكير الجماعي لهم الأن أن نظام صدام عاقبهم على ولائهم للدولة، وهذا كان عن طريق أنه عقب فشل الاحتلال العراقي للكويت وتدمير الجيش العراقي ورجوعه مهزوما إلى البصرة قامت انتفاضة في مدن الجنوب الشيعي بالعراق عرفت بالانتفاضة الشعبانية، وعلى إثرها قمعها نظام صدام بأقسى عنف ممكن وقصف مدن الجنوب العراقي بالطيران والمدفعية وقتل واعتقل بتلك الانتفاضة ربما أعداد أعلى مما قتل في الحملة العراقية على الكويت!

 

فلهذا الطبيعي والمنطقي لأي طائفة أنها سترى أن هذا كان عقابا لهم على ارتهانهم لخيار الدولة، فالبديل أن يكون الارتهان لخيار الطائفة الآن الممتدة من العراق وإيران إلى لبنان مرورا بسوريا طالما هذا الاختيار يحقق لهم انتصارا ويحقق لهم مصلحة ووجودا!

 

وإذا نحن حللنا السياسة الإيرانية تجاه العراق وسوريا الآن سنجدها بالفعل تقوم على أساس الطائفة مقابل الدولة، وهذا طريف لكون دعوى النظام السوري في حربه ضد الثورة يستند إلى كونه "نظاما" وإلى كونه معبرا عن فكرة الدولة بسوريا، ولكن الحديث الآن عن أي دولة بسوريا يعتبر نوعا من الحديث الهزلي ولا يمكن النظر إليه بجدية!، الشاهد أن الإيرانيين مقاربتهم الأساسية هي وجود اتصال ديموغرافي شيعي من إيران إلى العراق إلى سوريا إلى شواطىء لبنان على البحر المتوسط وصولا لحدود كل من سوريا ولبنان مع اسرائيل، فلهذا زيارة قيس الخزعلي قائد ميليشيا عصائب أهل الحق العراقية الموالية لإيران لحدود لبنان مع فلسطين المحتله هو أحد الصور المعبرة تلك الرؤية وهذا الحل!

 

وإذا كان هذا الحل -أي إقامة اتصال ديموجرافي شيعي- غير واقعي لكونه يقطع خاصرته وجود سني وآخر كردي على امتداد كل من العراق وسوريا، فإذن يكون الحل عندهم تغيير للتركيبة الديموغرافية بسوريا ضمن عملية جراحية صعبة وطويلة حتى يتحقق الاتصال الديموغرافي الشيعي، بدأ هذا منذ حصار حمص وصولا للحظة الراهنة!

 

وعموما فإن كل هذا يجعل مناسبا أن نذكر ما معنى مفهوم الدولة أصلا؟ وكيف يمكن أن نطلق على سوريا أو مصر أو أميركا دولة أو لا نطلق عليها تلك التسمية؟ هناك مدارس سياسية عديدة لتفسير " ظاهرة الدولة " لكن لاختصار المساحة نشير فقط إلى أن الدولة ترتبط بمفهومين أساسين وهما مفهوم المواطنة ومفهوم السيادة.

 

المواطنة بدورها لديها عدة تعريفات لكن التعريف الأكثر ارتباطا بهذا الموضوع هو كون المواطنة تمثل وسيطا ما بين مجموعات مصالح اقتصادية ومجموعات انتماء مجتمعي، بمعنى في مصر مثلا لدينا مجموعات مصالح مثل مجموعة رجال أعمال جمال مبارك وشركات الجيش التي تعمل في الاقتصاد المدني، وشركات المخابرات العامة والشركات المالتي ناشيونال العاملة في مصر، ولدينا مجموعات انتماء مجتمعية مثل الانتماء لعشيرة أو عائلة أو عرقية أو انتماء مدني لنقابات أو حركات أو تنظيمات مختلفة إلخ.. أو حتى لجمعات وظيفية مثل الانتماء لجهاز الشرطة أو القضاء أو الداخلية.

 

فالمواطنة تعريفها أنها تمثل البيئة الوسيطة بين هذين المجالين بحيث تسمح للإنسان الفرد أن يحقق ذاته وحقوقه الطبيعية والأصلية، وبنفس الوقت تحقيقه لحقوقه الطبيعية في صورته الكلية والمجملة يعود بالنفع على دائرة الانتماء التي ينتمي إليها سواء اسمها عشيرة أو قبيلة أو طائفة.

 

الكرد لن يستطيعوا الانتصار إلا إذا وصلوا لشاطىء البحر المتوسط حينها يستطيعون أن يقيموا فعلا دولة بالعراق وكيانا فيدراليا بسوريا وهذا مستحيل عمليا
الكرد لن يستطيعوا الانتصار إلا إذا وصلوا لشاطىء البحر المتوسط حينها يستطيعون أن يقيموا فعلا دولة بالعراق وكيانا فيدراليا بسوريا وهذا مستحيل عمليا
 

فبالتالي الإنسان يتحقق بصدق أنه في دولة إذا كان فعليا هو ينظر لنفسه أنه مواطن في تلك الدولة قبل أن يكون ينتمي لأي مجموعة فرعية، فأنت إذا سألت مصريا مثلا من أنت؟ وقال أنا مواطن مصري ولم يقل أنا ضابط جيش أو مستشار بالقضاء إلخ.. فهنا تحققه لذاته ينبع من حقوق المواطنة التي يكتسبها ويتمتع بها، فمن ثم فهنا توجد بالفعل دولة، أما إذا كانت الإجابة أنا شيعي أو أنا سني أو أنا مسيحي أو أنا كردي أو أنا ضابط بالجيش أو خلافه فهنا لا توجد مواطنة ولا توجد دولة، فمن ثم يرى هذا الشخص أن انتماءه لمثل تلك المجموعات الفرعية هو الذي يحقق حقوقه الطبيعية والإنسانية المختلفة!

 

الارتباط الثاني لفكرة الدولة يكون مع مفهوم السيادة، والسيادة بدورها لديها تعريفات عديدة لكن التعريف الأمثل هو أن المواطنة بدورها منوط بها إنشاء مجال سياسي يعبر عن فكرة التسوية أو المساومة بين مجموعات المصالح ومجموعات الانتماء، ومن ثم في هذا المجال السياسي يفوض الناس مجموعة معينة لكي يحكموهم وتكون بيدهم سلطة، ومن ثم فإن مفهوم الحكم هنا مرتبط بفكرة إدارة المجال العام الذي تتنازع فيه مجموعات المصالح ومجموعات الانتماء ومن ثم فتلك المجموعة التي تكون بيدها السلطة التي أعطتها لهم الناس تستطيع فرض سلطتها تلك عن طريق صياغة قانون يكون له نفاذية، والرقعة الجغرافية التي يجري عليها تنفيذ القانون تسمى إذن دولة!

 

حسنا، الآن كل تلك المعاني ليست موجودة في أي بيئة للربيع العربي – باستثناء تونس- بل ربما ليست موجودة اصلا في أي كيان مما يسمى الدول العربية! الآن الذي يمكن أن يكون أفقا للحل بحالة الثورات العربية هو البناء والاستثمار على حالة السيولة الموجودة في بيئة الثورات وليس محاولة مصارعتها.

 

حينما سيكون مفهومي المواطنة والسيادة متحققين في الانتماء لهذا الكيان فحينها يمكن تسميته فعلا بمسمى الدولة!

فكما قدمنا طوال تلك السلسلة من التدوينات فإن الفرضية الأساسية عندنا أنه لا يوجد طرف يستطيع الخروج من تلك الصراعات منتصرا، إذا استكملنا مع المثال السوري فالكرد لن يستطيعوا الانتصار إلا إذا وصلوا لشاطىء البحر المتوسط، حينها يستطيعون أن يقيموا فعلا دولة بالعراق وكيانا فيدراليا بسوريا وهذا مستحيل عمليا لن يسمح به لا الأتراك ولا الإيرانيون ولا الروس ولا الأميركان.

 

وقدمنا أن الطرف الشيعي لن يستطيع الانتصار إلا إذا كان لديه كذلك اتصال من الخليج العربي إلى شواطىء المتوسط ومهما حاولوا فهذا كذلك مستحيل، ونفس الشىء بالنسبة للعرب السنة، ولكن إذا كان الأكراد نظرتهم لأنفسهم أن وجودهم كعرق وكيان لن يستمر إلا إذا كان عمقهم الإستراتيجي مثلث العرب وإيران وتركيا فحينها يكون هناك معنى لانتصارهم، وكذلك المعامل الشيعي إذا كان نظرته أن عمقه الإستراتيجي ممثل في الكرد والأتراك والعرب السنة حينها يمكن لوجودهم أن يستمر، ونفس الشيء بالنسبة لنا كعرب سنة لكوننا للأسف الطرف الأكثر خسارة بتلك المعادلة.

 

فإذن تأسيسا على الفكرة التي سبق أن قدمناها بأن يكون دور الإسلاميين هو وصل بيئة الثورات العربية من اليمن لسوريا ومعها العراق إلى مصر وليبيا وتونس، فيمكننا النظر بعين الخيال إلى كيان واسع وممتد بالمشرق العربي يشمل العراق وسوريا ولبنان هذا الكيان أكثر سيولة في حدوده، ولكن الانتماء لهذا الكيان هو الذي يحقق للمجموعات الفرعية بداخله إمكانية تحقيق وجودها ومصلحتها وحينها مثلا وجود الكرد ما بين العراق وسوريا سيجعلهم عاملا في تحقيق مصلحة أوسع وأشمل لهذا الكيان الكبير كذلك وجود الشيعة عبر هذا الكيان كذلك وجود العرب السنة.

 

وهو الشيء نفسه الذي يمكن تطبيقه في بقية بيئات الثورات العربية، وفي هذه الحالة سيكون مفهوما المواطنة والسيادة متحققين في الانتماء لهذا الكيان فحينها يمكن تسميته فعلا بمسمى الدولة! وحينها أيضا لن يكون مثل هذا التغيير الهائل يقتصر علينا، بل في الواقع نحن حينها سنكون نغير في بنية النظام العالمي كله! وكما تبعنا العالم سابقا في فكرة ثورات الربيع العربي فمجددا سيتبع العالم خطانا في إعادة تعريف مفهوم وشكل الدولة التي يمكن أن تسع لنا جميعا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.