شعار قسم مدونات

التأصيل قبل التأويل

blogs القرآن

هل حدث أن قام فلاح من نومه فأخذ الثور والمحراث وذهب إلى أرض ما، فحرثها وزرعها قبل أن يتأكد من أنها أرضه أو أرض جيرانه؟! هذا قد لا يحدث في عالم الفلاحة والزراعة، لكنه يحدث في عالم الدين والفكر؛ فالعالم والمثقف قد يقضي عمره كله في تأويل النص الديني -مثلا- قبل أن يتحقق من أصالة هذا النص وصدق نسبته إلى مصدره، وهنا مفارقة عجيبة، فالعالم والمثقف لا يجهل أن التحقق من أصالة النص المقروء هو الخطوة الأساس التي تسبق أي عملية تأويل، لكنه مع ذلك يذهل عنها لأسباب تستحق التأمل.

 

قد نتفهم أسباب انصراف المتدين التقليدي عن خطوة التحقيق والتأصيل لمرجعياته الدينية، لأنه لا يعرف التفكير النقدي، ولا يتصور أن يخضع موروثه الديني للنقد والمراجعة، وإنما يكتفي بالاتباع المطمئن. لكننا نجد صعوبة في تفهم هذا القصور بالنسبة للمثقف المدني الحديث، الذي عرف المنهج العلمي وتشبع بحساسيته النقدية. إذ ما الذي يجعل مفكرا معاصرا يتحدث عددا من اللغات -على سبيل المثال- يذهل عن خطوة منهجية أساسية مثل خطوة التأصيل للمرجعيات الدينية التي يشتغل في حقل تأويلها؟!

 

لم ينجز علماء الدين بالعصور المتقدمة حد الكفاية بجانب تأصيل المرجعيات الدينية، حيث أن العمليات التي قام بها كل من الشافعي والشاطبي كانت بدايات علم لا نهاياته كما تعامل معها المتأخرون

لا شك أن لكل مهنة أوهامها التي توجه مسارها في بعض الأحيان، ومهنة العلم ليست استثناء في هذا. فللعلماء والمثقفين أوهامهم أيضا، وأخطر هذه الأوهام هي تلك المتعلقة بالمنهج؛ لأن الخطأ في المنهج يثمر أخطاء في النتائج لا حصر لها، كهذه الثمار التي يقطفها المسلمون اليوم نتيجة أخطاء منهجية في تأصيل المرجعيات الدينية التي تحكم وعيهم وواقعهم.

 

ومن أوهام الوسط العلمي الإسلامي أن علماء الدين في العصور المتقدمة قد أنجزوا حد الكفاية في جانب تأصيل المرجعيات الدينية، وهو بالطبع ما لم يحدث، فالعمليات التي قام بها -على سبيل المثال- كل من الشافعي والشاطبي وغيرهما في جانب تأصيل حجية الحديث المنسوب إلى النبي، كانت بدايات علم لا نهاياته كما تعامل معها المتأخرون، كانت المحاولات الأولى التي لم تخل من قصور، كما هي عادة المحاولات الأولى في كل شيء.

 

ويمكن للباحث المتمكن اليوم أن يجد في هذه المحاولات العديد من الثغرات المنهجية التي تطيح بنظرية الحجية من أساسها، مثل عدم كفاية البراهين الدالة على حجية الحديث النبوي من القرآن الكريم. فإذا انطلقنا من القاعدة المتفق عليها بين المتقدمين، التي تقول إن الحديث -وكل ما عدا القرآن من المرجعيات- يأخذ حجيته الدينية بدليل قطعي من القرآن نفسه، فبإمكان الباحث اليوم أن يقول مطمئنا إن المصدرين الثاني والثالث للتشريع في الإسلام لم يحظ أي منهما بهذا الشرط! فجميع الآيات التي استشهدوا بها في دعم مقولة حجية الحديث وحجية الإجماع ليست قطعية الدلالة، ومن السهل على أي عارف بلغة العرب أن يجد لكل آية منها دلالات أخرى أكثر اتساقا مع معطيات اللغة والسياق الداخلي للآية في المدونة القرآنية.

 

ولنأخذ على سبيل المثال أبرز آيتين احتج بهما القائلون بحجية الحديث النبوي؛ أما الأولى فقد احتج بها الشافعي في كتابه "جماع العلم"، وهي قوله تعالى: "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً". الأحزاب 34. حيث فسر كلمة الحكمة بـ"السنة" في تجاهل كامل للغة العرب وسياقات القرآن المتوافقة معه، ولهذا لم يستحسن بعض أئمة المذهب الشافعي نفسه -وكثير من المفسرين- هذا الاستدلال وردوه.

 

وفي القرآن نفسه العديد من الآيات التي تدحض هذا الاحتجاج، إما لأنها تعطي الحكمة معنى ثقافيا مفتوحا، كقوله: "يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً". البقرة 269. وإما لأنها تجعل الحكمة صفة من صفات القرآن، كقوله: "ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰٓ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ". الإسراء 39. وكلمة "ذلك" تشير إلى ما ذكر قبلها من آيات قرآنية، ومن ثم فإن الحكمة المقصودة في آية الأحزاب هي على الأرجح صفة لطائفة من آيات القرآن ذات الطبيعة غير القانونية، ولعل هذا هو الذي جعلها قسيما للكتاب الذي يضم آيات الشريعة في القرآن.

 undefined

وأما الأخرى التي احتج بها الشاطبي أيضا في كتاب "الموافقات" فهي قوله تعالى في مخاطبة النبي محمد: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ". النحل 44. حيث فهم العديد من الشيوخ والمفسرين أن إسناد "البيان" في الآية للنبي يعني أن له بيانا خاصا غير القرآن، وهذا جهل معيب بلغة العرب ومجازاتها أيضا، فبيان النبي هنا هو بيان القرآن نفسه، وإنما أسند إليه فعل البيان مجازا لأنه واسطة الفعل، وهذا ما تنبَّه إليه ابن عاشور في التحرير والتنوير فقال: وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِمَسَائِلِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَبَيَانُ مُجْمَلِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَتَرْجِيحُ دَلِيلِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ عِنْدَ التَّعَارُضِ الْمَفْرُوضَاتِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِذْ كُلٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ من تَبْيِينُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ هُوَ وَاسِطَتُهُ. أهـ.

 

بل إن سياق الآية نفسها يحسم الأمر، فهي تتحدث عن القرآن الذي نزل على محمد ليبين ما كتمه أهل الكتاب في شأن الرسالات السماوية، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ". النحل 43-44. أي ونزلنا عليك القرآن لتبين به ما جاء في كتب السابقين التي يخفيها أهل الكتاب، ولا مجال لتفسير الآية بغير هذا، وإلا فإنهم سيقعون في ورطة لا مخرج منها مع قوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ." آل عمران 187. حيث تسند الآية البيان لعامة أهل الكتاب ممن لا يوحى إليهم، وتحدد معنى البيان في أنه عدم كتمان الكتاب!

 

هذه عينات بسيطة لكنها كافية للدلالة على أن ما اشترطه الأصوليون في تأصيل المرجعيات الأصولية لم يتحقق وفقا لشروطهم هم، ولولا أن مساحة التدوينة لا تكفي لأتينا على كافة الآيات والاستدلالات التي قدموها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.