شعار قسم مدونات

هل يجوز التعلم من مدينة إسطنبول؟

مدونات - إسطنبول
تحيرني دائما المسألة الإسطنبولية التركية والتذبذب المقلق في علاقتها مع العالم العربي. في سياقات زمنية معينة وقصيرة، تتحول إسطنبول وكل النموذج التركي إلى خارطة الطريق التي يجب أن تتبعها الدول العربية الطامحة إلى التطور والتقدم والاستقلالية وإسعاد شعوبها، ويصرح البعض متسائلين متى تحظى الأمة العربية بأردوغانها؟ ثم وبعد فترات وجيزة، تنقلب الآية وتتحول تركيا إلى نموذج استبدادي يستدعي فيه حاكم البلاد أسطورته السلطانية ليصبح الحاكم الآمر، ساجن الحرية ومعتقل الصحفيين وقاهر المفكرين والأكاديميين.
   
هذا التذبذب المقلق يسبب غفلة عن أبعاد وجوانب جوهرية في فهم التطور العمراني والحضري والمعيشي الذي يقينا يحدث باطراد في المدينة الفريدة إسطنبول. من هذا المنطلق وفي محاولة مني للخروج من فخ التذبذب الغامض بين الإعجاب الشديد والكراهية المتصاعدة، فإنني أركز هنا على مجموعة من الملاحظات الخاصة بالمدينة وتطورها ونموها ومحاولات إسعادها لمن يعيش بها أو يزورها. وكما طرح المفكر العلامة د.أحمد أمين "فالمدينة الحقة… إنما تقاس بإسعاد الناس". 
إن شهادتي عن إسطنبول تتخذ موقفا محايدا وعلميا وأيضا بسبب حقيقة ترددي بانتظام على المدينة والكثير من المدن الأخرى في تركيا على مدى أكثر من عقدين لأسباب أكاديمية أو بحثية أو ترفيهية. وإسطنبول واحدة من المدن المحببة جدا لي، لأنها تملك التنوع والثراء والعمق الحضاري والزخم الإنساني. مدينة ذات طبوغرافية بديعة وتضم كنوز معمار سنان من مساجد ووكالات، وتملك إطلالات تخطف الأبصار والقلوب.
   
مدينة إسطنبول مدينة ملهمة للفنانين والشعراء والأدباء، وتطور دائما من أسطورتها كفضاء كوزموبوليتي فريد يربط آسيا وأوروبا. ألهمت المدينة أورهان باموق، الروائي التركي الفائز بجائزة نوبل للآداب سنة 2006، الذي كتب سيرة المدينة فألقى الكثير من الضوء على بداعتها وتفردها، وهو الذي قال عنها "خيالي يتطلب أن أعيش في المدينة نفسها وفي الشارع نفسه وفى المنزل نفسه محدقا في المنظر نفسه. إن قدر إسطنبول قدري، وأنا مرتبط بهذه المدينة لأنها جعلتني ما أنا عليه".
   

شبكة النقل العام المتكامل التي تغطي المدينة أصبحت مذهلة الكفاءة وتتنوع بين المترو والترام والأوتوبيسات والأتوبيسات السريعة وصولا إلى العبارات المائية
شبكة النقل العام المتكامل التي تغطي المدينة أصبحت مذهلة الكفاءة وتتنوع بين المترو والترام والأوتوبيسات والأتوبيسات السريعة وصولا إلى العبارات المائية
 

الواقع أيضا أن هذه الزيارات المتكررة لهذه المدينة الفريدة، جعلتني قادرا على متابعة ما يحدث في تركيا عموما وإسطنبول خصوصا، وبالذات على المستوى الاجتماعي والعمراني والتخطيطي. دعوني أشرككم في عشر ملاحظات فقط دونتها في آخر زيارة للمدينة، والتي انتهت فقط من أيام قليلة:

أولا: مستوى النظافة أصبح ملحوظا بطريقة جلية؛ لا يمكن أن تكون مدينة بهذه الكثافة البشرية والبنائية وتملك إرادة التحول في سنوات معدودة إلى مدينة ملفتة في نظافتها، هذه النظافة موثقة بوضوح حتى في الأسواق والشوارع التجارية والساحات العامة، وهو أمر ملفت أن تتحول حالة الشعب من الاهتمام بالخاص إلى الاهتمام بالعام.

   
ثانيا: شبكة النقل العام المتكامل التي تغطي المدينة أصبحت مذهلة الكفاءة وتتنوع بين المترو والترام والأوتوبيسات والأتوبيسات السريعة ووصولا إلى العبارات المائية. ويكفي أنني أمضيت عشرة أيام في إسطنبول؛ زرت العديد من أماكنها وأحيائها، دون أن أركب تاكسي واحد بما في ذلك من وإلى المطار. هذا التطور في الاعتماد على النقل العام المترابط والذكي أصبح معيارا رئيسيا في تصنيف المدن وتطورها وتحضرها.
   
ثالثا: يلحظ المراقب للفضاءات والخدمات العامة في المدينة حالة انتماء المجتمع لبلدهم ووعيهم الشديد وبصورة مبهرة. مثلا لاحظت كيفية وقوف الناس أمام أبواب المترو واتباعهم الإرشادات الخاصة بالوقوف على الجوانب للسماح لمن هم داخل المترو بالخروج من المنتصف. كنت أراقب في كل محطات المترو وأجد المعظم الأكبر من الناس شديد الالتزام.
  
رابعا: النظافة العامة لأفراد الشعب التركي ومظهرهم وروائحهم مبهرة. أنا هنا لا أتكلم عن صفوة المجتمع وما يسمى الطبقة الراقية، ولكني أتكلم عن تأملي لركاب عربة مترو أو أوتوبيس نقل عام أو موظفين أو بائعين. إذن فكرة الطبقة الراقية امتدت لتشمل الكثير من المواطنين العاديين، نعم فرد الشعب العادي أصبح نظيفا أنيقا، ومساهما في رسم صورة متحضرة عن مدينته وبلده. 
 
ما حدث في تركيا في العشر سنوات الأخيرة أنتج مدينة أفضل وأرقى، والأكثر أهمية، إنسانا واعيا وصاحب كرامة ومنتميا ومساهما في مشروعها وصورتها الحضارية، كما أنه فخور ببلده
ما حدث في تركيا في العشر سنوات الأخيرة أنتج مدينة أفضل وأرقى، والأكثر أهمية، إنسانا واعيا وصاحب كرامة ومنتميا ومساهما في مشروعها وصورتها الحضارية، كما أنه فخور ببلده
 

خامسا: بكل ما تشهده المدينة من حيوية، فإنني أدعي أنها أصبحت مدينة مستواها من الضوضاء محدود، بل وإنني وفي أماكن عامة كثيرة كنت أندهش من قلة المستوى الصوتي على الرغم من كثافة البشر. مستوى جديد من التحضر يكتسبه الأتراك ويميز المدينة.

  
سادسا: الانتشار الواضح للفضاءات المفتوحة العامة والحدائق المجانية على الرغم من الكثافة البنائية، ولكن هناك حرص على تقديم رئات خضراء متعددة وملحق بها مستوى ممتاز من الخدمات، واستخدام هذه الفضاءات العامة في احتفالات المدينة كما حدث ليلة بداية العام الجديد، حيث أشرقت شوارع إسطنبول وميادينها وخاصة شارع الاستقلال وميدان تقسيم بالأنوار والأعلام والزينات، وأعطيت فيها الأولوية الكاملة للمحتفلين والمشاة.
  
سابعا: تعدد مشروعات صيانة وترميم وإعادة استخدام المباني التراثية ودمجها بصورة فاعلة في حياة المجتمع وكذلك حياة السائح إدراكا لقيمة هذا التراث ومساهمته في تكوين سردية حضارية وثقافية مستدامة عن المدينة.
 

المعيار الحقيقي هو ماذا يحدث على الأرض ويؤثر على حياة المواطن ويغيره ماديا ومعنويا وأخلاقيا وتنمويا ووطنيا

ثامنا: كل العاملين في القطاع الخدمي والأمني يرتدون ملابس متناسقة نظيفة، ومنهم رجال الأمن وعمال النظافة ورجال المطافئ وأمن المترو وسائقو الحافلات.

  
تاسعا: كمّ ما هو مصنوع في تركيا وبصورة ممتازة يثير السعادة، وفي الأسواق العادية والمولات التجارية الحديثة والمناطق الشعبية والمناطق السياحية ترصد قوة وتنافسية المنتج التركي، ليس فقط التراثي الحرفي الفني، ولكن المتجدد المواكب لمتطلبات وتوجهات العصر.
  
عاشرا: وهذا لغز الألغاز ومعضلة المعاضل: دورات المياه العامة نظيفة جدا -أه والله- وعندما يحافظ الإنسان على نظافة دورة المياه العامة، فأنت أمام تحول فارق في فهم العام والجمعي والمجتمعي ومعنى الانتماء للمدينة وامتلاكها كأنها جزء من امتداد مسكنه ومتجره وكل أنواع فضاءاته الخاصة.
  
قد تكون ملاحظاتي السابقة شخصية، ولا يحق لي تعميمها ولكني أدعي، وبسبب خبراتي في مجالات التصميم العمراني وتخطيط المدن، أنني مراقب جيد للعلاقات المتعددة والمركبة بين الإنسان والمكان. كما أعتقد أن ما حدث في تركيا في العشر سنوات الأخيرة أنتج مدينة أفضل وأرقى، والأكثر أهمية، إنسانا واعيا وصاحب كرامة ومنتميا ومساهما في مشروعها وصورتها الحضارية، كما أنه فخور ببلده. إذن سردية إسطنبول المعاصرة تجعلني أقول لا يهم أن تحب أردوغان وتكره السيسي أو العكس.
   
ولا يعنينا أن ما حدث في تركيا انقلاب فاشل وفي مصر انقلاب ناجح أو العكس، ولا يهم من يهتف تحيا تركيا أو تحيا مصر ألف مرة كل يوم. المعيار الحقيقي هو ماذا يحدث على الأرض ويؤثر على حياة المواطن ويغيره ماديا ومعنويا وأخلاقيا وتنمويا ووطنيا، ومن ثم يستشعره المراقب الخارجي ويقدم شهادته مؤكدا أننا بصدد مدينة تقدم نموذجا للتغيير عندما تتواجد الإرادة ويتعاظم الإخلاص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.