شعار قسم مدونات

"راحو الطيبين"

blogs ذكريات

كثيرا ما نعبث بأوراق الماضي، ونتصفح صوره وذكرياته، لتأخذنا إلى أيام خلت وسويعات جميلة عشناها مع رفقة طيبة أو شخص عزيز، فيجتاحنا الحنين وتهزنا الأشواق، وندخل في حالة تعلو على الواقع، ونبدأ في وصف جمال تلك الأيام قائلين: "أيام الزمن الجميل"، أو "راحو الطيبين".

 

لحظات جميلة نحاول اجترارها، نتذكر بها الماضي، ونستعلي من خلالها على الحاضر فضلا عن المستقبل، محاولين العودة إلى الوراء للتخفيف عن أنفسنا بعضا مما فيها. والحقيقة أن ربط الزمن الجميل بالماضي فيه تعد على الحاضر، وتشاؤم من المستقبل، إذ نجعل الجمال فيما ذهب فقط، ونرسل زفرات التحسر والندم لنصبغ بها حاضر الأيام وقادمها.

 

يأنس الإنسان بالعودة إلى الماضي، فيخلع عليه ثوب الطهر، فينقيه من الضغائن ويبقي على الجمال المخزّن في الذاكرة على شكل صور يسترجعها متى ما أحس بألم الحاضر، أو ببؤس المستقبل، ويتناسى تماما أنه عاش تلك الأيام بحنين إلى ماض آخر، بحثا عن متنفس لآهاته وزفراته.

 

ربما يكون من الجمال أن ألقي بذاكرتي في الماضي، تستأنس بذكرى عطرة وموقف لطيف، ولكن الكمال أن أستذكر الماضي بكليته، بخيره وشره، فآخذ العبر، واستأنس بلطف الله وما قدرّه لنا فيه

الزمن الجميل موجود في كل زمان، وليس في الماضي فقط، والطيبون تجدهم حيثما رحلت أو حللت، في محل إقامتك أو في سفرك، هم حولك الآن في المكان الذي تجلس فيه، في مكان دراستك، أو عملك، تجدهم بين جيرانك وأهلك، بين ثلة الأصدقاء الباقية لك، في روح صديق لا يجد المتعة إلا بوجودك، أو حبيب لا ينام قبل أن يسلم عليك.

 

ربما يكون الماضي أفضل من اليوم حسب معاييرنا، وربما جمعتنا ذات يوم لحظات دافئة في عائلة جميلة، أو بين جمع من الأصدقاء أسبغوا علينا من كريم ضحكاتهم وملحهم، فزاد تلك اللحظات جمالا فوق الجمال، ولكن كل هذا، بجماله وبهائه، لا يجعل الماضي قد مرّ بلا منغصات، ولا يجعل الحاضر خاليا من الخير والجمال، أو المستقبل كدرا مليئا بالهموم بلا مقدمات، بل كل زمان له ما له، وعليه ما عليه، فيه من الخير ما يجعلنا نحمد المولى أن جعلنا فيه، وفيه من الشرور ما يجعلنا نستعيذ بالله هروبا منها.

 

صاحب النفس الجميلة يرى الجمال في كل لحظة، وليس في الماضي فقط، ويتفقد الطيبين حوله، من أهله وأصدقائه، وزملائه ورفاقه. وصاحب الفطنة يعاين الموقف من كل اتجاهاته، من الزوايا المشعة المحيطة به، حيث يرقد الحب والجمال، ومن ثغرات الغدر التي قد تسمح للعابثين بالعبث فيه!

 

ربما يكون من الجمال أن ألقي بذاكرتي في الماضي، تستأنس بذكرى عطرة وموقف لطيف، ولكن الكمال أن أستذكر الماضي بكليته، بخيره وشره، فآخذ العبر، وأستتأنس بلطف الله وما قدرّه لنا فيه. وكما أن الماضي لم يكن خيرا محضا، فكذلك الحاضر والمستقبل ليسا شرا مستطيرا، نتعوذ منهما آناء الليل والنهار، بل هو حال متغير، ودنيا متقبلة، نتقلب فيها بين الخير والشر، ونواجه كليهما بكل قوتنا وشجاعتنا، فيكون حالنا الحمد عند الأولى والصبر عند الأخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.