شعار قسم مدونات

وراء الظل هناك عظماء.. الحيوان الصغير

blogs هيلين كيلر

كثيرا، كنت أود أن أعرف عنها الكثير، وكيف لا أرغب بشدة في ذلك وهي أعجوبة من عجائب الدنيا كما أصفها دائما! وهي التي قالت إن العمى ليس شيئا والصمم لا شيء، نحن جميعا مكفوفون وأصحّاء بالنسبة إلى الأمور الأزلية، غير أن الطبيعة كريمة معنا بالرغم من كل قسوتها؛ لقد حبتنا جميعا نحن المتمتعون بخمس حواس ضعيفة على الأكثر بحاسة سادسة مطلقة غير محدودة، حاسة ترى وتسمع وتحس الحواس جميعا في واحدة.

هي "هِلن كِلر" تلك المرأة التي حطمت كل الحواجز والفروق البشرية التي وُضِعَت بين الإنسان المعاق والإنسان غير المعاق، والتي أثبتت أن الإرادة لا تحتاج إلى جسم سليم تماما ومعافى من كل شيء لكي تتولَّد في نفس الإنسان، هي المرأة المعجزة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، طفلة وُلِدَت طبيعية تماما مثل سائر الأطفال، ولكن في شهرها العشرين أصيبت بمرض الاحتقان الحاد في الدماغ حُرِمَت بسببه من الثلاث؛ البصر، السمع، الكلام.

  

وبسبب الاختلاف الذي شعرت به بينها وبين سائر الأطفال، تحولت تلك الطفلة المسكينة إلى ثائرة طوال الوقت، وأصبحت ترفس وتصرخ وتهشم كل مَن يقترب منها، وكانت ممنوعة من الاقتراب من الأطفال أو اللهو معهم، ولذلك لجأت إلى تمزيق ملابسهم وقص شعرهم بالمقص، فأطلق عليها كل مَن يراها ذلك اللقب الذي شعرتُ بثقل قلمي عند كتابته وعند استخدامه كعنوان لمقالتي تلك؛ ألا وهو "الحيوان الصغير" بلا شفقة ولا رحمة لتلك المسكينة التي حُرِمَت من نعم كثيرة، وكانت لا تزال طفلة لا تعلم أن الله عندما حرمها من نعمة البصر أعطاها نعمة البصيرة والنظرة الحادة للمستقبل، حتى أصبحت أعجوبة من عجائب الطبيعة كما كانت تلقبها الكثير من الصحف عندما كبرت.
 

عندما بلغت هِلن كِلر الثامنة من عمرها حملتها المعلمة إلى مدرسة المكفوفين، وفي هذه المدرسة كان المكفوفون كأنهم مبصرون وأفضل لسعة علمهم وقوة بصيرتهم

وكانت لها دمية هي الوحيدة المسموح لها باللعب معها، ولذلك كانت تحبها أكثر من شقيقتها التي حُرِمَت من اللعب معها، وكان خطر هلن على نفسها أكثر من خطرها على غيرها، حتى أنها ذات يوم كانت ستحرق نفسها أمام المدفأة، ولكن استطاعت الخادمة إنقاذها أخيرا. وذات يوم عقدت أمها العزم على ألا تجعل فقدان طفلتها للسمع وللبصر وللكلام عائقا أمام حياتها وسببا في شقائها وبؤسها، فعلمتها أن تصنع إشارات لتقول من خلالها ما ترغب به، وأن تستخدم يديها لتعرف الطريق التي تسير هي فيها.

أصبحت لـ"هلن" في صغرها رفيقة دائمة وهي طفلة صغيرة من الزنج، وهي ابنة الطاهية التي تعمل بالمنزل، وكلبة صغيرة تدعى "بل" لا تفارقها أبدا. وذات يوم استطاع العالم "ألكسندر غراهام بيل" مخترع التليفون أن يُرشد والدي "هلن" إلى وجود المعلمة المعجزة لطفلتهما، فكتب والد "هلن" إلى معهد بوكنز للمكفوفين، وقد أرسل إليهما المعهد معلمة ملائمة لطفلتهما وهي "آن ساليفان"، وكان عمر "هلن" في ذاك الوقت ست سنوات، وكانت "آن" حديثة الخروج من مرضها الذي أصابها بالعمى لثمان سنوات، وقد عانت "آن" من الفقر والمرض كثيرا.

علمتها "آن" أن تصغي وتتكلم بيديها، وبالتدريج استطاعت "هلن" أن تتهجى وتقرأ كل الأشياء التي تحيط بها وتستعملها يوميا، وتعلمت كيف تسأل وتتحدث بيديها، وبعد ثلاثة أشهر استطاعت "هيلن" أن تكتب أول رسالة لها، وكانت المعلمة تصنع لها أحرفا بارزة من الكرتون، وكانت تلمسها بأصابعها. درست الجغرافيا بواسطة خرائط كانت تُصنع في أرض الحديقة، وكانت تستخدم أصابعها لكي تشعر وتحس بأشكال الجبال والأودية ومجاري الأنهار.

وعندما بلغت الثامنة من عمرها حملتها المعلمة إلى مدرسة المكفوفين، وفي هذه المدرسة كان المكفوفون كأنهم مبصرون وأفضل لسعة علمهم وقوة بصيرتهم، وعندما بلغت العاشرة بدأت المعلمة بتعليمها كيف تتكلم، حتى إنها استطاعت أن تستجمع الحروف وتتحدث بلغة يفهمها من حولها، وبعد سلسة من الفشل استطاعت أن تنطق الحروف الأبجدية بكل وضوح، وكانت أول عبارة تنطق بها: إن الطقس دافئ.

 
فأصبحت الطفلة التي كان يُطلَق عليها "الحيوان الصغير" مثل سائر الناس، وأصبحت مستعدة للالتحاق بالتعليم الجامعي بكل قوة، وفي سن الرابعة عشر التحقت بمدرسة عليا للصم، واستطاعت أن تدرس الحساب والجغرافيا والألمانية والفرنسية والإنجليزية، وقد أظهرت تفوقا في دراستها جعلها تقرر الالتحاق بالتعليم الجامعي، وكانت المعلمة آن تدخل معها وتترجم لها كل ما يقوله الأساتذة عن طريق التحسس على يديها، فتشعر بكل ما تكتبه المعلمة وبالتالي تستطيع فهم ما تدرسه.

 

استطاعت هِلن كِلر أن تعيش حياة زاخرة بالنجاح والأعمال الأدبية القوية ووجهات النظر والآراء التي كانت تحملها، حتى غابت تلك المعجزة عن عالمنا في سنة 1968م
استطاعت هِلن كِلر أن تعيش حياة زاخرة بالنجاح والأعمال الأدبية القوية ووجهات النظر والآراء التي كانت تحملها، حتى غابت تلك المعجزة عن عالمنا في سنة 1968م
  

وكانت في وقت الامتحانات تمتحن في غرفة خاصة بها، حيث تعلمت الكتابة على الآلة الكاتبة، وبعد سلسلة من الإخفاقات لعدم تمكنها من الكتابة على الآلة الكاتبة استطاعت أن تنال شهادتها الجامعية بكل تفوق، وبعد ذلك كرست حياتها لمساندة الطلاب المكفوفين الذين لم يتمكنوا من الحصول على فرص مثل التي نالتها. والذي اكتشف عبقريتها ككاتبة هو "تشارلز تاونز كوبلاند"، حيث قال لها إن لديك شيئا خاصا تودين قوله أيتها الآنسة "كلر"، ولديك أسلوب خاص لقوله.

واقترح عليها بأن تكتب قصة حياتها، وبالفعل قد كتبتها، وكانت من أندر الوثائق البشرية. استطاعت من خلال العائد الذي أتى إليها نتيجة كتابها ذاك أن تستقر مع المعلمة آن في مزرعة في رنثام في ولاية مساتشوستس لقضاء حياتهما معا في التأمل والكتابة، وأصبحت "هلن" تقرأ الأدب العالمي من خلال الكتب التي كانت تحضرها إليها المعلمة "آن".

وكانت "هلن" كأي فتاة؛ أحبت وأحبها شاب دخل إلى حياتها، لكن سرعان ما استيقظت على واقعها بأن الحب والزواج ومباهج الأمومة وتحمل المسؤولية ليست لها، وعليها أن ترضى بما هي عليه، وتعيش بين أحلامها وكتبها فقط، وجاء ذلك اليوم في عام 1936م، وهو انقسام الروحين؛ المعلمة "آن" و"هلن"، فرحلت "آن" وودعتها "هلن" بكل أسى وكمخلوقة تائهة، وقال "ريتشارد كابوت" أحسب أن مثل هذه الشراكة بين روحين بشريتين لم توجد من قبل على هذه الأرض.

استطاعت أن تعيش حياة زاخرة بالنجاح والأعمال الأدبية القوية ووجهات النظر والآراء التي كانت تحملها، حتى غابت تلك المعجزة عن عالمنا في سنة 1968م، فكانت حياة زاخرة بالأمل والسعادة والنجاح أكثر من كثير ممن يتمتعون بحواسهم كاملة، وكان من أعمالها "تفاؤل" و"ديانتي" و"يوميات هلن كيلر" و"قصة حياتي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.