شعار قسم مدونات

القذافي بنكهة مصرية.. كيف يتقدم السيسي "معاتيه القادة"؟

blogs السيسي

"أنا ربنا خلقني طبيب.. طبيب أوصف الحالة.. ربنا خلقني كدة..
كل الدنيا بتقول: اسمعوه. مين اللي بيقول؟ خبراء المخابرات والسياسيين والإعلاميين، وكبار الفلاسفة لو حبيتوا.."

 

كان ذلك مقتطفا من تسجيل شهير للرئيس المصري المنقلب عبد الفتاح السيسي، ضحك الناس منه كثيرا حينها، وما زالوا يضحكون، وبسببه خلعوا عليه لقب "طبيب الفلاسفة"؛ حتى صار يعرف به، وهم في سخريتهم محقون، فالتسجيل مضحك فعلا، لكن الأكثر سخرية، وبلا ضحك هذه المرة، أن بعض ما ذكره السيسي في هذا التسجيل السخيف صحيح بوجهٍ ما، وأن السيسي يعد ملهما لبعض قادة العالم، لا عن مؤهلات وذكاء أوتيهما الرجل، إنما عن كون ما يفعله يؤتي أكله حقّا.

 

أواخر مارس/آذار 2011، نشرت صحيفة "لوس أنجلس تايمز" مادة مثيرة، نقلها موقع الجزيرة نت بعنوان: "هل القذافي يلهم قادة المنطقة"؟ ذكرت فيه الصحيفة أن الأنظمة العربية -بعد سقوط بن علي ومبارك- تسير في ركب القذافي في قمع الثورات أو دفن بذورها، وكيف أن حكام اليمن وسوريا والبحرين سلكوا طريق القذافي ورأوها أنجع في قمع التظاهرات من طريقة نظامي تونس ومصر.

 

وحسب الصحيفة، فإنه من خلال صنيع القذافي، اكتشف الحكام المستبدون في العالم العربي أن استخدام العنف ورفض التسوية السياسية، والاستمرار في إحكام السيطرة هي خير سبل النجاة، عوضا عن الموافقة على إجراء الإصلاح السياسي.

 

لقد ارتكب السيسي موبقات ما كان يخيل أن تمر على مصر والمنطقة والعالم، أدار مذابح على الهواء مباشرة، افتخر بحرق جثامين معارضيه، ونشر إعلامه صورها بنفسه
لقد ارتكب السيسي موبقات ما كان يخيل أن تمر على مصر والمنطقة والعالم، أدار مذابح على الهواء مباشرة، افتخر بحرق جثامين معارضيه، ونشر إعلامه صورها بنفسه
 

كان تقدير الصحيفة دقيقا جدا، اضطرب نظاما تونس ومصر في التعامل مع "اختراع" الثورة، واستطاع الشعب في كلا البلدين أن ينتزع انتصارا -ولو مؤقتا- على نظاميهما، لكن القذافي كشف لسائر القادة أن كل شيء ممكن، وأنه ليس عليكم أن تضطربوا أو تخافوا، وقد نجح -لولا تدخل الناتو- في مسعاه، وكاد يأخذ بنغازي، ويعيد الأمور إلى ما كانت عليه.

 

اليوم يحتل السيسي موقع القذافي، كمنارة إلهام، لكن أثره دولي عالمي، لقد أثبت السيسي أن بإمكانك أن تصنع ما تشتهي، وليس عليك أن تسلك سبيل "مبارك" في تجميل الواقع المزري، وصناعة الشكل المقبول، والسياسة التي تبدو متزنة ولو بالحد الأدنى.

 

لقد ارتكب الرجل موبقات ما كان يتخيل أن تمر على مصر والمنطقة والعالم، أدار مذابح على الهواء مباشرة، افتخر بحرق جثامين معارضيه، ونشر إعلامه صورها بنفسه، لاحق كل معارض، وأودع في سجونه عشرات الألوف، وحكم على المئات منهم بالإعدام في محاكمات هزلية مسرحية، ثم باع قطعا من أرض مصر علانية، ولاحق كل من نادى بمصريتها، وأغلق المجال السياسي بالكلية.

 

يلهم السيسي الزعماء المعاتيه للعالم الجديد، ويريهم أن بوسعك أن تقدم على أي خطوة خطيرة، دون أن تأبه للتبعات، تماما كما يقول المثل الفلسطيني: "بتيجي مع الهُبل دُبُل"

ثم كان آخر استخفافه وجنونه ملاحقة كل من يفكر في منافسته، في الانتخابات التي يقيمها ويشرف عليها، حتى بلغ به الأمر أن اختطف من كان قائده قبل سنوات قليلة، رئيس أركان جيش مصر الأسبق، سامي عنان، وأرسل مجموعة من البلطجية لضرب من رشحه نائبا عنه، أحد أشهر قضاة مصر، المستشار هشام جنينة، الذي اختلف معه وأقاله بسبب ملاحقته قضايا فساد، ضرب الرجل المسن وأهين، واحتجز كمجرم في قسم الشرطة، في مشهدٍ كأنما اقتطع من أحد أفلام السبكي الرخيصة.

 

أتصور "ترمب" و"نتنياهو" يراقبان السيسي باهتمام، ينظران كيف استطاع أن يمرر بيع تيران وصنافير، يغري ذلك شهيتهما بإقامة دولة فلسطينية في سيناء، يقولون: من استطاع أن يمرر تلك، يمرر هذه. ها هو السيسي بكل جنونه واستخفافه ينجح في أمور طالما عدت مستحيلة، الأمور تسير إذن، ولم تقع السماء على الأرض، بل يحظى الرجل بالاعتراف والعناية والتعاون حتى من قبل قادة محسوبين على العقل والتوازن أمثال "ميركل" و"ماكرون"!

 

 إنه يقتل بلا رحمة، وهم يبيعونه الأسلحة، فلماذا نرحم نحن؟ لعل "نتنياهو" يحدث نفسه بهذا، ولم لا يفعل، وقد رفع متظاهرون صهاينة يمينيون شعارات تسب "نتنياهو" وتشيد بالسيسي أثناء حرب 2014 على غزة، فما الذي أعجب الجمهور في السيسي ولم يفعله؟ لماذا لا أصنع مثله هكذا أتصور نتنياهو يفكر، وقد فعل، فلم يكن نتنياهو في حرب 2014 مطلقا يشبه نتنياهو في حرب 2012.

 

يحاول الأميركان والصهاينة استغلال أيام السيسي، أو سمها ظروف المنطقة الاستثنائية، لتحقيق أكبر ما يمكنهم تحقيقه، ولتصفية القضية الفلسطينية بالكلية
يحاول الأميركان والصهاينة استغلال أيام السيسي، أو سمها ظروف المنطقة الاستثنائية، لتحقيق أكبر ما يمكنهم تحقيقه، ولتصفية القضية الفلسطينية بالكلية
 

يلهم السيسي الزعماء المعاتية للعالم الجديد، ويريهم أن بوسعك أن تقدم على أي خطوة خطيرة، دون أن تأبه للتبعات، تماما كما يقول المثل الفلسطيني: "بتيجي مع الهُبل دُبُل"، والهبل هي جمع أهبل، أو ما يسمى بالمصرية العبيط، و"الدبل" هي كلمة "double" المعروفة بالإنجليزية، فهذا السيسي بهبله، صنع ما لم يصنعه مبارك بعقله.

 

يحاول الأميركان والصهاينة استغلال أيام السيسي، أو سمها ظروف المنطقة الاستثنائية، لتحقيق أكبر ما يمكنهم تحقيقه، ولتصفية القضية الفلسطينية بالكلية، ويتصرف ترمب على طريقة السيسي؛ يتخذ الخطوات الكبيرة التي طالما ادخرها أسلافه، وينفذها على نحو استعراضي مبالغ فيه، ويهدد الدول بقطع المعونة، ويقطعها فعلا، متيقنا أنه لا تبعات ولا عواقب بعدها.

 

منذ أيام نشر الساخر "تريفور نوح" مقطعا كوميديا تخيل فيه ترمب مصريا، وتحدث فيه بما يشبه العربية على طريقة ترمب ونوه مستعينا بضيفة مصرية إلى كون ترمب والسيسي أصدقاء، ويتشاركان الكثير من الصفات. كان ترمب المصري كما تخيله الساخر تريفور مضحكا فعلا، لكنني أزعم أنه أقل إضحاكا بكثير من واقع الرئيس المصري!

 

رغم أن الأمور منذ سنين، تدل على صحة الرهان على السياسات الرعناء، وشهادة التاريخ بكونها كثيرا ما تمر فعلا، وأن أحداثا عظيمة وتحولات كبيرة في هذا العالم، تسبب بها من هم أكثر رعونة وجنونا، ولم يوقفهم شيء، إلا أن المنطق والتاريخ يشهدان أيضا، أن سقوط أمثال هؤلاء وفشلهم، إذا ما وقع فإنه سيكون أعظم وأوجع، والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.