شعار قسم مدونات

التصوف توجس السلوك وموضة الاعتناق

blogs - sufiam

هذا طريق أقل ما يقال عنه، يدخل بك سراديب الماورائيات، ويلفت وعيك إلى مساحات من التأمل لم تكن في حسبانك، وربما لم تكن ذا بال في عالمك الواقعي المعاش، ولمجرد أن جذبتك إشارة نحو هذا العالَم الجديد، عالم البواطن والإشارة، فإنك إما أن تسلك فتغرق، وإما أن تستشرف فتعوم، وإما أن ترقب فتبقى على الشاطيء.

 
إن خيار المضي في عالم المتصوفة، لم يكن يوما كما هو اليوم، تباه بدروايش طوافة، أو موضة العبارة الأنيقة الرشيقة، التي ترافق سبحة ومصباحا خافتا ونايا وعمامة. فأخرج التصوف من ثقل التكاليف إلى صورة الموضة، ومن لواعج العرفان إلى ما تظنه عالما أكبر قد انطوى فيك، مستشهدا بالعبارة العرفانية العظيمة، التي أخذت من الرومي مسافات من الفهم، وحجزتها أنت تحت صورة من العرض والتباهي.

 

لا عجب أن نرى المراجع الأوروبية تزخر بدراسات حول ابن عربي والنفري والحلاج والغزالي، بينما وقفنا نحن في خنادق الزندقة والقبورية و التخاريف 

وكم ضاقت العبارة على النفري بعدما اتسعت رؤيته، وقد وجدت المخاطبات والمواقف على ورق تالف داخل جبته بعد موته، ثم لم يزد على معتنقي العبارة أي رؤية، ولم تتسع العبارة ولا الرؤية. وكم مضى الحلاج الذي أثار بموته جدلا بين السلطوي والديني، وبقيت مقولته "ما في الجبة إلا الله"، خالدة سواء في عقول مزندقيه، أو مواليه. كم مضى على جبته إلى أن أصبحت تغنى، وأبيات شعر تلحن وقد غاب عنهم مكابدته في الوصول إلى الجبة و الصلب والحرق.
 
ويلفتك في تيار التموض الجديد في الصوفية المعتنقة، الوجد المبتذل في الحضرة، سواء بالحرص الميكانيكي على التواجد، أو بالتصوير المعظم لها، وهي التي وُصفت بأنها فترة الراحة من ثقل التصوف، وحفل الترفيه من تكاليفه المتعبة في الحياة، لكنها لدى الجدد، تمثل أم الطقوس وذروة سنام التصوف، وبينما هي كما قال الجنيد -القطب العارف- فيها لما سئل" ما لنا لا نراك تدور في الحضرة، أجاب مقتبساً الآية: "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب". فما يدور فيك هو الأهم لا ما يدور أمامك، وفي هذا فهم لعبارة الرومي من جديد، وفيك انطوى العالم الأكبر.

 

إن تنامي ظاهرة التصوف من جديد، بعد قصور الكثير من التيارات الدينية في التعبير عن فحوى الدين، أو وضعه في قوالب منتجة على صعد حياتية وسياسية وحتى تربوية، ساهم في ظهور هذا الاتجاه العام نحو هذه "الحركة الروحية في الدين الإسلامي، كما يصفها الأوروبيين في السياقات التاريخية. ولا عجب أن نرى المراجع الأوروبية تزخر بدراسات حول ابن عربي والنفري والحلاج والغزالي، بينما وقفنا نحن في خنادق الزندقة والقبورية و التخاريف.
 
إن غياب الفهم الحقيقي للتصوف، ونبذ أعلام الحركة الصوفية، ووقوعنا في صراعات التكفير والشطحات، دون أدنى محاولة للفهم أو المحاورة، أنتج لدينا صوفية قشورية، تأخذ من التصوف درويشها ومولويتها وجبتها، وعباراتها، وتترك المكابدة العرفانية، ومحاولات الوصول إلى جوهر الأمر وكنه الوجود والمعرفة الحق.

   

دراسة متأنية لتاريخ أقطاب العرفان ورموز التصوف، سيجعلنا قادرين على الفهم، الفهم المطلوب في ظل الرفض المتوجس للتصوف
دراسة متأنية لتاريخ أقطاب العرفان ورموز التصوف، سيجعلنا قادرين على الفهم، الفهم المطلوب في ظل الرفض المتوجس للتصوف
   

ثم إن محاولات التدجين التي نجحت في تحييد طرق التصوف، بعيدا عن السياسة أو المدافعة في سبيل الحق، أضفى عليها تدينا غير مدفوع التكاليف، وحالات محببة لدى أنظمة القهر، بينما يروي لنا التاريخ حالة فذة من حالات العرفان والمتصوفة وتاريخا مشرقا للجيلاني وهو يربي الجيل بعد الجيل من الناس، لصلاح الدين الأيوبي في جيش التحرير، وكذلك تكايا التصوف السني التي أنشئت في وجه المد الفاطمي في مصر، ولا ننسى الحسين بن منصور الملقب بالحلاج، والذي يقال أن مقتله كان سياسيا بحتا، بعدما اشتبك الرجل مع مطالب الناس في وجه السلطان، وقتل بحجة الزندقة والحلول.
   
إن التصوف كسلوك عرفاني، أو ممارسة فلسفية، أو دروشة اهتيامية، يحتاج منا إلى الإقتراب الحقيقي من كنه هذا التوجه الذي أثار الجدل منذ ظهوره، والذي ما زال قادرا على فتح آفاق جديدة في الفهم والوعي، خاصة في منطق عدم الاكتفاء بظاهر الأشياء، و عدم الركون إلى البواطن. إن نظرة متفحصة لهذه الروحانية العميقة، وهذا الطريق اللامنتهي، ودراسة متأنية لتاريخ أقطاب العرفان ورموز التصوف، سيجعلنا قادرين على الفهم، الفهم المطلوب في ظل الرفض المتوجس للتصوف أو في ظل موضة الاعتناق له.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.