شعار قسم مدونات

هل يونع الربيع العربي؟

blogs - الربيع العربي

يعود مصطلح "الربيع العربي" إلى الصحافي الفرنسي بينوا ميشان Benoist Méchin، في الخمسينيات من القرن الماضي، وقد كتب كتابا عنونه ب "ربيع عربي" كان خلاصة جولة قادته لبلدان الشرق الأوسط وحوارات مع قاداته وأصحاب الرأي منه، ومنهم ميشيل عفلق، منظر القومية العربية، وقد أفرد له فصلا خاصا واعتبره تجليا للربيع العربي وحاملا لأمل. ولم يزهر ذاك الربيع. ثم عاد المصطلح من جديد، في خضم الحراك الذي عرفته بلدان العالم العربي، وعفّى عن مصطلحي ثورة الياسمين وثورة الفل.. فهل يزهر هذا "الربيع"، وكيف يزهر وكبواته تتوالى، من حروب أهلية، وعودة فجة للسلطوية، وصراعات عرقية وطائفية؟ 

 

المقارنات حيلة يلجأ إليها علماء السياسية، ولكنها لا تفيد إلا إن تقاربت الظروف والسياقات، فهل نستطيع أن نقارن مع سياقات ثقافية وتاريخية مختلفة؟ ومع ذلك يمكن أن نجد تقاطعا مع ما يعرفه العالم العربي، وما عرفته أوروبا في القرن السابع عشر من صراعات طائفية وحروب أهلية، وضعت حدا لها من خلال منظومة ويستفاليا، في قرية مغمورة هي ويستلفايا، سنة 1648، أضحت علما للمنظومة الحديثة في العلاقات الدولية.

 

منظومة ويستفاليا تحول في تاريخ أوروبا، بل تاريخ البشرية، حينما اجتمع مندوبو دول أوروبا، ليرسوا قواعد جديدة في العلاقات الدولية؛ هي نواة القانون الدولي الحديث، ومنها مفهوم الدولة، ومنها حل النزاعات بالطرق السلمية، ومنها القواعد الدبلوماسية المتعارف بشأنها.

 

لا يمكن الانتقال من منظومة لأخرى، من دون نقد وتمحيص للقديم، فالبعض استهوتهم مفاهيم رنانة، فألقوا بالقديم دون نقده و تمحيصه، فعاد لهم من حيث لم يحتسبوا وطوّح بهم

واقع التطاحن والصراع في العالم العربي، يذكر بسابقة أوروبا في القرن السابع عشر، فهل يؤول الأمر إلى إرساء ويستفاليا عربية؟ هل ينتهي الأمر يوما ما إلى حل النزاعات بالطرق السلمية؟ وهل يؤول الأمر إلى ترسيخ مفهوم الدولة؟ وهل ستظهر هذه الشريحة من رجالات الدولة، أمثال ريشلويه الفرنسي Richelieu، ممن صنعوا تاريخ أوروبا؛ أي أن الولاء يكون لمنظومة لا لأشخاص، وينطبع سلوك رجالات الدولة بسلوك يغلب مصلحة الدولة ويتوخى الصالح العامة؟

 

مفهوم الدولة لم يترسخ في العالم العربي بعد، ومن العسير الحديث عن رجالات الدولة وخدامها في غياب مفهوم الدولة. في يوليو/تموز 2014 أفردت مجلة دوإيكومونسيت الرصينة؛ ملفا خاص عن العالم العربي. يمكن استجلاء أهم فكرتين تضمنهما الملف، أولاها: ما أسمته الصحيفة بعَرَض الجزائر، Algerian syndrome وتحيل إلى سابقة تدخل الجيش لوقف المسلسل الانتخابي في يناير/كانون الثاني 1992، ودخول البلد في دوامة الحرب الأهلية، وهي توحى بالانقلاب على الرئيس مرسي بمصر.

 

والفكرة الثانية: هي مفارقة؛ والمصطلح لدوكونسيت، وجود أنظمة قوية ودول هشة. يتم الخلط ما بين النظام وما بين الدولة، مثلما يتم الخلط ما بين العضو والوظيفة. فوجود أدوات إدارية لا يعني بالضرورة وجود الدولة كوظيفة، باعتبارها عقدا اجتماعيا لفائدة الجميع، وليس لفئة أو طغمة أو أسرة أو عشيرة. ومن المؤشرات على انعدام الدولة هو عدم تطابق العضو والوظيفة، فهل حقا تقوم وزارات التربية بوظيفة التربية؟ وهل تضطلع إدارات الأمن الوطني بوظيفة الأمن الوطني؟ وقل ذات الشيء عن وزارات التضامن الاجتماعي، ومجالس الشورى، وهلم جرا؟

 

اللغة باعتبارها حاملة الفكر وأداته، ينبغي أن تكون دقيقة ورشيقة، ولا يمكن تصور هبّة فكرية من دون ثورة ثقافية تكون اللغة أساسها
اللغة باعتبارها حاملة الفكر وأداته، ينبغي أن تكون دقيقة ورشيقة، ولا يمكن تصور هبّة فكرية من دون ثورة ثقافية تكون اللغة أساسها
 

كل الثورات جعلت وكدها بناء إنسان جديد، ومن ثمة أولت قضية التربية أهمية قصوى، ليس بصفتها تعليما واكتساب معارف وحذق تقنيات ومهارات فقط، بل باعتبارها تحولا. وما يزال الخلط يرين في أذهان الكثيرين بالعالم العربي ما بين التعليم والتربية. وقد لا نعجب يوما ما أن نقرأ في زمن ما، أن ما سمي بثورة لم يكن كذلك، وما اعتبر يقظة ليس كذاك، كما حدث مع ما سمي بالثورة العربية الكبرى في بداية القرن العشرين والتي لم تكن ثورة وإنما حركة أوقدتها المخابرات البريطانية، ولم تكن كبرى، لأنها انتهت بالتقسيم والاحتلال.

 

إن المجتمعات مثلها مثل الأفراد، لا يمكن أن تنجز إلا ما تصورته سابقا، ومن ثمة فالفكر سابق على الفعل مثلما يقول المتنبي في حكمته المأثورة "الرأي قبل شجاعة الشجعان"، ولكن الفكر يفترض مفاهيم دقيقة، فلا يجوز أن نسمي الأشياء بغير مسمياتها، ومن ثمة فاللغة باعتبارها حاملة الفكر وأداته، ينبغي أن تكون دقيقة ورشيقة، ولا يمكن تصور هبّة فكرية من دون ثورة ثقافية تكون اللغة أساسها.

 

والشيء الثاني؛ هو ما يسمى بواجب الجرد، لا يمكن الانتقال من منظومة لأخرى، من دون نقد وتمحيص لتلك القديمة، والحال أن البعض استهوتهم مفاهيم رنانة، من قبيل؛ القطيعة الأبستمولوجيا، والإجهاز على التراث، من دون نقد القديم واستخلاص عصارته، فألقوا به وعاد القديم من حيث لم يحتسبوا؛ فطوّح بهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.