شعار قسم مدونات

الخيانة العذبة.. "مثقفو وعلماء السلطة"

blogs - zewail
من أكثر مشاعر الإحباط التي تنتاب المتشوق للحرية والعدالة والديمقراطية أن يشعر بخيانة مرجعياته الثقافية والفكرية، وسقوطها في امتحان ثبات المبادئ والقيم. هذه الفكرة التأسيسية حفزها تأمل موقف الممثلة ميريل ستريب في رفض توجهات الرئيس الأميركي الجديد. ألقت ميريل في حفل توزيع جوائز جولدن جلوب خطابا بديعا لم تذكر فيه اسم الرئيس، ولكنها شددت على أن الفنان الصادق هو الذي يتمسك، بكل طاقاته ومهما كانت التحديات، بمبادئ الحرية والعدالة والمساواة.

 
ثم أضافت: "عدم الاحترام يجلب عدم الاحترام، والعنف يجلب العنف. وعندما يستخدم القوي مركزه في الإساءة إلى الآخرين نخسر جميعا". هاجمها الرئيس الأميركي شخصيا وادعى أنها ممثلة مبالغ في تقديرها، فلم تتراجع ونقدت موقفه في كل الفعاليات التالية التي شاهدها العالم. بل يبدو للمراقب أن الطاقة التي ولدتها ميريل ستريب امتدت لأكاديمية السينما المانحة لجوائز الأوسكار التي منحت في دورتها الأخيرة 2017 ولأول مرة في التاريخ، جوائز لفيلم وثائقي سوري، ولممثل أميركي مسلم، ولفيلم روائي إيراني. حيث قدمت الأكاديمية نموذجا نافذا لبيان موقف ضد أعداء الهجرة والمسلمين والأقليات.
 

تتأمل المشهد وتتساءل كيف يتراجع زويل أمام بروباجندا عسكرية ديكتاتورية بل يجملها ويصيغ ويسوق مفردات قبولها في السياق المصري. كيف تسنى له قبول هذا الدور الرديء!

هذا المستوى من وعي ونضال المبدعين ذكرني بأديب رفض التنازل من أجل نضاله والحفاظ على مبادئه، حيث استدعيت واقعة حدثت عام 2009، وهي قصة الأديب خوان غويتيسولو الذي رفض جائزة القذافي العالميّة للأدب، لما أسماه الأسباب الأخلاقية. أوضح الروائي أسباب رفضه الجائزة، في رسالة وجهها إلى لجنة التحكيم قائلا "استولى القذافي على الحكم بانقلاب عسكري سنة 1969. لن أقبل جائزة يمنحها القذافي، فإنّ الأمر مستحيل تماما. أنا أُعَدُّ بين قلّة من الروائيين الأوروبيين المهتمين بالثقافة العربية، وقد دافعت قدر استطاعتي عن القضية الفلسطينية، وكنت حاضرا من أجل استعادة شعوب المنطقة للحريّة التي حرمت منها على نحو تعسّفي، في إطار احترامي الخاص للشعوب العربية وثقافتها الرائعة، انتقدتُ دائما، الأنظمة التي تستبدّ بشعوبها، وتبقيها في الفقر والجهل".

  

قارن هذا الموقف مع موقف الكاتب المصري جابر عصفور الذي اختار أن يكون الفائز البديل بعد رفض غويتسولو. دافع عصفور عن حقه في الحصول على جائزة القذافي وقال أنا لم أرشح لجائزة لحقوق الإنسان، إن الجائزة أدبية، وأن من اعتذر عن الحصول عليها فهذا حقه، ولكن لا يعني هذا أن يسير على دربه الآخرون. الملفت أن عصفور بعد تنحي مبارك وفي خضم انتشاء الكثيرين بالربيع العربي ومحاولة الانتماء إلى معسكر الثورة والمبادئ، قرر التنازل عن الجائزة بسبب ما وصفه "المجازر التي ارتكبها" النظام الليبي. وأضاف "أرى أنه لا يشرفني أن تكون جائزة القذافي بين الجوائز التي حصلت عليها طوال مسيرتي، كونها تحمل اسم هذا السفاح".
 
إذا أثار إعجابك موقف غويتيسولو واستنكرت موقف عصفور، فيجب أن يمتد حزنك ليشمل العالم أحمد زويل، ليس فقط بسبب رحيله إلى عالم أفضل، ولكن لأنه لم ينه حياته بمثل هذا الموقف. كيف سمح الفائز بجائزة نوبل بأن تكون صورته الأخيرة في مصر وهو متصدرا لمؤتمر كل حضوره من العسكر، وهو مدرك جريمة ما حدث في فض اعتصامات ميادين مصر، ومدرك فضيحة مصر العلمية التي تبلورت حين أعلن لواء مشبوه اكتشافه علاج مرض الايدز أمام الرئيس المُنتظر حينها والرئيس المؤقت الصامت.

 

تتأمل المشهد وتتساءل كيف يتراجع زويل أمام بروباجندا عسكرية ديكتاتورية، بل يجملها ويصيغ ويسوق مفردات قبولها في السياق المصري. كيف تسنى له قبول هذا الدور الرديء وهو العالم المدقق الفاحص المتيقن من أن نجاحه لم يكن ليتحقق لولا مناخا من الحرية والديمقراطية واحترام الإنسانية تمتع به ولعقود في جامعات ومختبرات الولايات المتحدة الأميركية. كيف يجلس زويل محاطا بالعسكر وهو مدرك أن بعض زملائه وتلاميذه يفترشون الأرض الباردة القاسية في زنازين وحشية.

 

نتأمل ماذا فعل ويفعل هؤلاء المثقفون والشعراء، ونتساءل: هل يحتاج المثقف المصري العربي إلى جرعة أخلاقية أم أنه أعلن وفخور بموت ضميره وخيانة فنه واإداعه ومبادئه وقيمه؟
نتأمل ماذا فعل ويفعل هؤلاء المثقفون والشعراء، ونتساءل: هل يحتاج المثقف المصري العربي إلى جرعة أخلاقية أم أنه أعلن وفخور بموت ضميره وخيانة فنه واإداعه ومبادئه وقيمه؟
 

حتما يجب استدعاء مواقف هؤلاء المثقفين المناضلين من أمثال ستريب وغويتسولو مقارنة بمن تم تجنيده من النخبة المثقفة في مصر لإسقاط قيمة ثورة 25 يناير من الوعي الجمعي للشعب والتشويه الكامل لصورتها اليوتوبية. ثم تطور هذا التخريب إلى سحق المد الثوري وإطلاق لفظ نكسة على ثورة 25 يناير. نفس المثقفين الذين استهلوا كلماتهم قائلين "عندما كنا في التحرير" والذين طرحوا أفكارا لتخليد التحرير بل كتبوا قصائد تمجده، الآن يقولون: لا تقل ثورة بل قل نكسة أو وكسة يناير". وقد تطور جهدهم من اتهام مَن بالتحرير بأنهم مأجورون أو مضللون إلى اتهام الثورة كلها بأنها الحدث الأسوأ في تاريخ مصر. وتصل ذروة الدراما عندما يجلس هؤلاء جميعا بعد انقلاب 3 يوليو يتبارون في خيانة فنهم وإبداعهم وإنتاج مرجعيات لفظية مبهرة تصف قائد الانقلاب بأنه المنقذ أو جمال عبد الناصر الثاني أو مُرسل من الله. 

 

إن تأمل المواقف على مدار السبع سنوات الماضية، يبلور تغيرات بندولية صادمة ومن نخب فكرية لم تدخر جهدا في توثيق علاقتها بالثورة والميدان ثم خيانتها. الكاتب سيد ياسين، أصر في مقالات نشرها أثناء حكم المجلس العسكري، على عدم جدوى الاستمرار في التظاهر في ميدان التحرير بدعوى أن المجلس العسكري تولى زمام القيادة ويجدر بالشباب الثوري أن يعودوا إلى بيوتهم وجامعاتهم لأن الثورة أصبحت في أيد أمينة. وقد شاركه في نفس الرؤية الكاتب سعد الدين إبراهيم، حيث دعا للإخلاء الفوري للميدان. ثم عاد ياسين ليتناول حالة ميدان التحرير المعاصرة واصفا إياها بالعشوائية. وبالمثل حذر الشاعر فاروق جويدة من انه أدرك متأخرا أن من بالتحرير ليسوا من الثوار ولكنهم أطفال شوارع وبلطجية يروعون المنطقة بالمولوتوف.

 

وتحدث بهاء طاهر في كتابه "أيام الأمل والحيرة"، عن علاقة المثقف بالحاكم، وأوضح أن المثقف نشط في وجود حاكم يعي دور المثقف، وأيضا الحاكم المتنور لا يظهر بدون وجود مثقف مدرك، واستشهد بحالة محمد علي مع رفاعة الطهطاوي. لكن المذهل أيضا أن الكتاب يقدم شهادة ذاتية توضح موقف كاتب في قيمة طاهر وجد في المجلس العسكري الحل الأفضل لمصر ودافع عنه، ثم أدرك متأخرا خطأ لا يعقل أن يقع فيه المثقف الحر.

 

يقولون لنا فقط اذكروا محاسن موتاكم. رحم الله الجميع ولكن إعمال العقل واستفزاز الذاكرة والالتزام بالمبادئ فارق في حياة الأمم. الجنة الحقيقية لمن رفض أن يخون فنه ومبادئه وقضيته ومجتمعه

يمثل الشاعر عبد الرحمن الابنودي، الذي سجن شابا لمطالبته بالحرية، حالة تستحق التأمل. لقد اتسق الأبنودي مع تاريخه النضالي حين هنأ الشعب المصري في بداية نجاح الثورة قائلا:"أول كلامي أهني الشعب أبو الثوار، اللي خلق ثورته، تحت الرصاص والنار". ثم لاحقا قال إن الانقلاب ثورة وزعيمه "زعيم طاهر لا يختلف معه إلا الباطل". ضم إلى الأبنودي المتمرد أحمد فؤاد نجم والذي انتهى دوره كشاعر ثوري مع مقولته الأخيرة حين وصف المنقلب (بالدكر).

 

ثم تطورت أفكار نجم وأطلق على المنقلب لقب عبد الناصر الجديد الذي حمى الشعب وأخذه بالحضن تبعا لتعبيره؟ يمثل الروائي جمال الغيطاني حالة دالة أيضا، فقد كان من كبار الداعمين لنظام ما بعد الانقلاب ووصف مدبره بأنه وطني طاهر، وأعلن تأييده للمطالبين بقتل آلاف المصريين. كما أوصى في آخر تصريحاته بسرعة إعدام قيادات الإخوان والرئيس مرسى، بدعوى أن عدم قتلهم هو سر استمرار العنف والإرهاب.

 

نتأمل ماذا فعل ويفعل مثقفون وشعراء من حجم هؤلاء ونتساءل: هل يحتاج المثقف المصري العربي إلى جرعة أخلاقية أم أنه أعلن وفخور بموت ضميره وخيانه فنه وإبداعه ومبادئه وقيمه. كيف يرفض مثقف حر اللحظة التاريخية التي استعاد فيها الشعب وجوده. كيف يقبل المثقّف أن يتحول من مناصر للشعوب إلى المساند والمبرر لقتل الآلاف وتحويل ديكتاتور إلى بطل ورقي أسطوري. الموهبة التي يملكها بعض المثقفين والنخبة العربية تتبلور في جهدهم لترسيخ مبادئ الذاكرة السمكية لدى الشعوب لأنها تراهن على النسيان السريع جدا، لأن العرب بينما هم مستغرقون في مجلدات التاريخ، لا يتعلمون منه غالبا.
 
مجموعة خانت فنها وشعبها وهي راحلة أو تقترب من الرحيل إلى القبور. لماذا لا يتسق بعض المبدعين العرب مع مبادئ فنهم ومسؤوليات إبداعهم؟ لماذا يخافون وهم في نهايات أعمارهم؟ لماذا يتناقضون كل التناقض مع كل ما حاربوا من أجله بل وسجنوا من أجله وتحولوا إلى نصرة ديكتاتور، وتفرغوا لإنتاج صورة ذهنية بطولية أسطورية له لتغييب الشعب المصري وإجهاض طاقته الرافضة المتمردة الثائرة؟ لماذا يسقطون في امتحان التقدمية والتنوير؟ لماذا لا يمتلكون شجاعة النضال ونزاهة نقد مواقفهم الذاتية؟ لماذا يخونون أجيالا آمنت بهم ورددت أفكارهم ومقولاتهم؟ يقولون لنا فقط اذكروا محاسن موتاكم. رحم الله الجميع، ولكن إعمال العقل واستفزاز الذاكرة والالتزام بالمبادئ فارق في حياة الأمم. الجنة الحقيقية لمن رفض أن يخون فنه ومبادئه وقضيته ومجتمعه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.