شعار قسم مدونات

القيمة المعنوية لأمريكا تتآكل

blogs الولايات المتحدة

ما يحطِّمه فيل أهوج من محتويات متجر خزف؛ لا يبلغ الأضرار التي يُلحقها رئيس أرعن بصورة بلاده وقيمتها المعنوية في العالم. إنها خلاصة الخسائر التي تكبّدتها الولايات المتحدة في المجال المعنوي منذ صعود دونالد ترمب إلى الرئاسة الأمريكية.

 

إنها واشنطن تحديداً التي استثمرت طويلا في دبلوماسيتها الشعبية، وعمدت إلى توظيف قوتها الناعمة في العالم، التي تأسست على القيمة المعنوية المتضخمة لأمريكا بصفتها "أرض الأحلام والفرص والحرية" في الوعي الأممي. لكنّ التوجّه الخشِن الذي باشره عهد ترمب زهد بهذا كله وباشر التضحية بالمرافعة القيمية التقليدية عن الحرية، وصعد خطاب يراهن على سد أبواب "الفرص" ونوافذ "الأحلام" بإحكام في مواجهة العالم البعيد الذي تجسده الدول الإسلامية، بل حتى مع الجوار الذي تمثله المكسيك.

 

تآكل القوة الناعمة

تتراجع الدبلوماسية الشعبية الأمريكية في زمن ترمب، ولا مبالغة في وصف ما تشهده بأنه انهيارات، تتآكل معها القوة الناعمة للدولة الأولى في العالم، التي لم تعد حريصة على نهج "كسب العقول والقلوب". وما يفاقم من هذا الضمور الجسيم أنّ الولايات المتحدة، تحديدا، صاغت نموذجا رياديا وعريقا على مستوى العالم في هذا النوع من الدبلوماسية، حتى ألهمت طريقتها في مراكمة القوة الناعمة وتوظيفها العديدَ من الدول فاتخذتها مثالا ومعيارا لتباشر تجارب على منوالها. وكان يكفي القول إنّ طريقة ما في العلاقات العامة والدبلوماسية الشعبية "معمول بها في أمريكا" لتكتسب المصداقية والاهتمام وتغدو نموذجا يُحتذى به.

 

تقود إدارة ترمب بذاتها مسيرة الانكفاء عن العولمة والتبادل الحر، ومعها تتآكل القوة الناعمة لبلد استثمر طويلا في قيمته المعنوية وتأثيراته الثقافية وتقديم نمط حياته للعالم
تقود إدارة ترمب بذاتها مسيرة الانكفاء عن العولمة والتبادل الحر، ومعها تتآكل القوة الناعمة لبلد استثمر طويلا في قيمته المعنوية وتأثيراته الثقافية وتقديم نمط حياته للعالم
 

تتضمّن الدبلوماسية الشعبية الأمريكية مزيجا واسعا ومتعدد المسارات ومتنوع الوسائل، بما يشمل، مثلا، دبلوماسية الوفود والزيارات، وبرامج التبادل الشبابي والتعليمي، والنشاطات الثقافية، والجهود الإعلامية، وتوظيف المعونة والمساعدات، والتواصل مع المنظمات غير الحكومية، وغير ذلك كثير. وتعتمد الولايات المتحدة خيارات أخرى في المجالات الإعلامية والتواصلية، ومنها إنعاش دور المنظمات غير الحكومية الأمريكية ومؤسسات العلاقات العامة وحصون الفكر وبعض الجامعات، وتشجيع المعاهد الأمريكية في الخارج.

 

وتميزت الدبلوماسية الشعبية الأمريكية أيضا بسعيها لتوظيف المساعدات الإنمائية التي تقدمها الولايات المتحدة بما يخدم حضورها ومكانتها، ومن الواضح أنّ المجال الإنمائي لا يحظى بحماسة إدارة ترمب العاكفة على امتصاص المال من العالم بأسلوب مشبّع بالغطرسة، ومقايضة أعطياتها علناً بمواقف الانصياع السياسي لها في الهيئات الدولية، مع التخلي حتى عن الالتزامات نحو البيئة كما تجلى في الانقلاب على اتفاقية المناخ.

كانت "خطة مارشال" الأمريكية لتشجيع إعادة إعمار أوربا بعد الحرب العالمية الثانية مثالا على توظيف المساعدات لخدمة القيمة المعنوية للولايات المتحدة والاستثمار في الدبلوماسية الشعبية، واتسع هذا التوجّه بوضوح في ما بعد، عبر سياسة المساعدات التي تقدمها هيئة المعونة الأمريكية للدول والمنظمات غير الحكومية في بلدان نامية وفقيرة، والتي يجري إبرازها مع شعارات من قبيل: "هدية من الشعب الأمريكي".

 

لكنه ليس زمن خطة مارشال أو المناداة بالانفتاح وتحرير التجارة والاستفادة من وعود العولمة، بل تقود إدارة ترمب بذاتها مسيرة الانكفاء عن العولمة والتبادل الحر، ومعها تتآكل القوة الناعمة لبلد استثمر طويلا في قيمته المعنوية وتأثيراته الثقافية وتقديم نمط حياته إلى العالم. وعندما تقرر الولايات المتحدة غلق أبوابها في مواجهة الشبان والشابات من أذكياء العالم الإسلامي، وتعيق وصول الكفاءات المختصة في حقول شتى إليها؛ فإنها تخسر معنويا فوق الخسائر المادية والبشرية والمعرفية الفادحة التي ستلحق بالصناعة الأكاديمية والعلمية في الدولة العظمى.

 

عندما دفعت الولايات المتحدة بقواتها لغزو أفغانستان والعراق مطلع القرن الحالي أدركت أنّ عليها القيام بجهود مكثفة موازية على صعيد الدبلوماسية الشعبية لكسب مواقع معنوية وتخفيف حدة التأثيرات السلبية

لم يكن مفاجئا، بالتالي، أنّ أهم الشركات العاملة في قطاع الشبكات الإلكترونية وتقنية المعلومات تصدّرت المعترضين على مراسيم ترمب التي قضت بمنع وصول مواطني دول مسلمة إلى الولايات المتحدة. فهذه الشركات تعتاش أساسا على تشبيك عالمي حر مع أمم الأرض جميعا، وعلى تقديم برمجيات وتطبيقات فائقة النفوذ وواسعة والانتشار، علاوة على أنها شركات قامت على امتصاص عقول العالم وكفاءاته المبدعة واستفادت من نزيف الأدمغة المزمن، المتدفق من الدول النامية والفقيرة.

 

اضمحلال ثقافة التبادل

وظّفت الدبلوماسية الشعبية الأمريكية برامج التبادل الشبابي والتعليمي والجامعي التي تستقطب عشرات الألوف سنويا من صفوة المجتمعات حول العالم، ومن بينهم أجيال تصدرت النخب القيادية الحاكمة في عدد من عواصم العالم منذ عقود.

 

ومن بين البرامج المتعددة الفعالة التي تقوم بها هيئات رسمية وتعليمية وأخرى غير حكومية؛ تكفي ملاحظة مفعول برنامج وزارة الخارجية الأمريكية الخاص بالزوار الدوليين، على سبيل المثال، فقد كان من بين الملتحقين به في شبابهم قادة وزعماء ورؤساء حكومات ووزراء في أرجاء العالم، حتى أنّ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول أعلن سنة 2004 أنّ أكثر من مائتين ممن اشتركوا في هذا البرنامج حتى ذلك الحين قد أصبحوا إما رؤساء دول أو رؤساء حكومات، ومنهم مثلا رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير، ورئيسة إندونيسيا السابقة ميغاواتي سوكارنوبوتي، والرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي، والرئيس المالي الأسبق ألفاه عمر كوناري، الذي رأس مفوضية الاتحاد الإفريقي، والقائمة تطول.

 

ولا يختلف الحال مع برامج أخرى، من قبيل "منح فولبرايت" التي تقدمها الحكومة الأمريكية للطلاب الدوليين للدراسة في الولايات المتحدة بواقع أربعة آلاف منحة سنويا، فبعض من تلقوها اضطلعوا لاحقا بأدوار أساسية في قيادة التحولات في بلادهم، مثلا في أوروبا الشرقية في نهاية العهد الاشتراكي، أو في بلدان من قبيل تيمور الشرقية لدى استقلالها، علاوة على أرجاء العالم الأخرى من أمريكا اللاتينية غربا إلى شرق آسيا.

 

وقد توسعت الإدارة الأمريكية في استقطاب العرب والمسلمين لهذه البرامج المتعددة بدءاً من سنة 2002، حتى أنّ نخبة واسعة من الإداريين الصاعدين في حقول متنوعة شاركوا فيها. وكان كولن باول ذاته قد أعرب عن آمال معقودة على الدبلوماسية الشعبية في مجال التبادل من قبيل: "لعل الجيل القادم من زعماء العالمين العربي والإسلامي سيكون من بين الطلبة الذين تم اختيارهم لمبادرة الشراكة من أجل التعليم". إنه يعني المبادرة التي انطلقت بالتزامن مع إعلان واشنطن حربها "العالمية على الإرهاب" في 2001، والتي تقوم على إيفاد مئات الشبان والشابات من دول غالبية سكانها من المسلمين للدراسة في المدارس الثانوية والجامعات الأمريكية في مستوى البكالوريوس، على أن يعيشوا مع أسر أمريكية.

 

لقد أدركت الإدارات الأمريكية والمنظومات المؤسسية المحيطة بها، أنها تستثمر لفائدتها المباشرة في برامج التبادل تلك، علاوة على مجمل سياسات المساعدات التي تعود بمكاسب بعيدة الأمد على واشنطن وإن لم تكن مرئية أو قابلة للقياس. والمفارقة التي تشكلت في عهد ترمب أنّ تجفيف ينابيع القوة الناعمة الأمريكية يتعدى برامج التبادل تلك إلى المساس بفرص الدراسة الاعتيادية ذاتها في الجامعات الأمريكية؛ التي تخرجت منها أجيال متلاحقة من النخب الأكاديمية والإدارية والعلمية والتخصصية في العالم الإسلامي.

 

بذلت إدارات أمريكية متعاقبة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين جهوداً دؤوبة في مخاطبة العرب والمسلمين، وتم السعي إلى إبراز الحياة المسلمة في الولايات المتحدة بصورة وردية
بذلت إدارات أمريكية متعاقبة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين جهوداً دؤوبة في مخاطبة العرب والمسلمين، وتم السعي إلى إبراز الحياة المسلمة في الولايات المتحدة بصورة وردية
 
أزمة التواصل مع المسلمين

عندما دفعت الولايات المتحدة بقواتها لغزو أفغانستان والعراق، مطلع القرن الحالي، أدركت أنّ عليها القيام بجهود مكثفة موازية على صعيد الدبلوماسية الشعبية لكسب مواقع معنوية وتخفيف حدة التأثيرات السلبية. وتمثل "استراتيجية التواصل مع العالم الإسلامي"، التي دشنتها إدارة جورج بوش الابن في ظلال ما سمّتها "الحرب ضد الإرهاب"، مثالاً لإعادة إنتاج الدبلوماسية الشعبية وإنعاش القوة الناعمة في مجالات جديدة، خاصة بعد تفكك المنظومة الاشتراكية وإعادة تعريف "الأعداء" والسعي لتوجيه "حرب الأفكار" من الجبهة مع الشيوعية إلى الجبهة مع العالم الإسلامي؛ بأساليب تستجمع الضغوط مع الاستمالة.

 

هكذا وقع مع مطلع القرن الحالي إطلاق مجموعة من الأدوات الإعلامية، المتلفزة والإذاعية والمطبوعة والإلكترونية، ومنها باللغة العربية: فضائية "الحرة"، و"إذاعة سوا"، ومجلة "هاي"، وهي تجارب لم تحقق نجاحاً مميزاً لاعتبارات شتى تتعلق بالنمو النوعي الذي طرأ على البيئة الإعلامية العربية، وكذلك ظهور هذه المنابر في هيئة دعائية أمريكية غير مستساغة. وعلاوة على استمرار أدوات إعلامية أمريكية تقليدية؛ فقد جرى التوسّع بإدماج اللغة العربية في إعلام وزارة الخارجية والإدارة الأمريكية وهيئاتها وسفاراتها، بما في ذلك مواقع الإنترنت. وظهر جيل من الناطقين الرسميين الأمريكيين بالعربية ولغات الشعوب المسلمة يتميزون بأنهم من الشباب ويظهرون بابتسامات عريضة خلال إطلالاتهم في الشاشات ومنابر الحديث، لتسويق سياسات متحيزة وشديدة الوطأة.

 

وقد بذلت إدارات أمريكية متعاقبة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين جهوداً دؤوبة في مخاطبة العرب والمسلمين، وتم السعي إلى إبراز الحياة المسلمة في الولايات المتحدة بصورة وردية ومخاطبة المسلمين بطرق ودودة، عبر خطوات منها تثبيت خطابات التهنئة بالمناسبات الإسلامية من الرئيس الأمريكي ضمن البروتوكول المعتمد خاصة في عهد بوش الابن وأوباما. كما جرى تكليف أشخاص مختصين بالعمل في مجال الدبلوماسية الشعبية مع المسلمين حول العالم، وتنظيم جولات واتصالات لهم، وإيفاد أئمة مختارين بعناية من داخل الولايات المتحدة للتجوال في العالم الإسلامي وتجمّعات الأقليات المسلمة، خاصة خلال شهر رمضان، بينما باشرت السفارات الأمريكية إقامة إفطارات رمضانية بذاتها، وعمدت إلى تثبيت ذلك ضمن برامجها البروتوكولية، مع إنعاش التواصل المكثف بين السفراء الأمريكيين والمجتمعات المحلية المسلمة حول العالم إلى درجة تقديم مساعدات لمنشآت ثقافية ودينية متعددة مع تسليط الأضواء عليها وفق القاعدة الدعائية: افعل الخير وتحدّث عنه!.

 

صعد ترمب إلى المنصة في هيئة شخص مسلّح بالمفاجآت ومدجّج بالطيش والعجرفة، ليدشن عهدا جديدا استنفر النخبة الأمريكية التقليدية ووجوه الحكم السابقين سريعا
صعد ترمب إلى المنصة في هيئة شخص مسلّح بالمفاجآت ومدجّج بالطيش والعجرفة، ليدشن عهدا جديدا استنفر النخبة الأمريكية التقليدية ووجوه الحكم السابقين سريعا
 

في ثنايا التحركات الدؤوبة التي ظلّت متواصلة حتى نهاية عهد أوباما؛ عملت الدبلوماسية الشعبية الأمريكية بشكل حثيث مع فئات وشرائح محددة من المجتمعات المسلمة، فجرى على سبيل المثال إطلاق برامج تواصل مع نخبة الشباب المسلم حول العالم، ومع القيادات النسائية المسلمة، مع التوسّع في برامج زيارات واشنطن التي تُنظّم لفئات متعددة في المجتمعات المسلمة، علاوة على إطلاق برامج تدريبية كثيفة وواسعة النطاق موجهة إلى فئات نوعية محددة، من قبيل مرشحي البرلمانات، مع منح أولوية للنساء المرشحات، ولقيادات الأعمال النسائية، والصحافيين الصاعدين.

 

كانت تلك البرامج الرسمية وشبه الرسمية تعمل، دون أن تعبأ بحروب أمريكا في العالم الإسلامي ولا بمنحى الوصم السلبي والتصنيف بالإرهاب الذي باشرته الإدارات الأمريكية عبر قوائمها وحملاتها مما لحق بوفرة من المؤسسات والشخصيات العربية والمسلمة.

 

عهد أمريكي خشن

ثم صعد ترمب إلى المنصة في هيئة شخص مسلّح بالمفاجآت ومدجّج بالطيش والعجرفة، ليدشن عهدا جديدا استنفر النخبة الأمريكية التقليدية ووجوه الحكم السابقين سريعا. ولا مفاجأة في أنّ عددا من وزراء الخارجية السابقين يقفون في خندق المعترضين على نهج ترمب، مثل مادلين أولبرايت وهيلاري كلينتون وجون كيري، فهؤلاء ومعهم دبلوماسيو واشنطن حول العالم يرون بعيونهم انهيارات معنوية تلحق بصورة بلادهم في الفضاء العالمي بمعاول العهد الجديد.

 

مع هؤلاء المعترضين تحتشد نخبة فنية وسينمائية قدمت أمريكا إلى العالم عبر الشاشات والأغاني بقدرات صناعة ثقافية وإعلامية ذات تأثيرات طاغية على شعوب الأرض، علاوة على حشود من الشبان والشابات الذين اندفعوا ضد سياسات ترمب بإغلاق الأبواب في مظاهرات غمرت الميادين وأحاطت بالمطارات بعد أن غمستهم العولمة في فضائها الافتراضي وتشرّبوا شعاراتها ووعودها كما لم يحدث مع سابقيهم.

 

سيبقى لأمريكا تأثيرها المتجاوز لأي إدارة تتعاقب على واشنطن، وهو متحقق بقدرات الصناعة الإعلامية والسينمائية والفنية والثقافية عموماً، علاوة على الريادة العلمية والبحثية والمؤسسية
سيبقى لأمريكا تأثيرها المتجاوز لأي إدارة تتعاقب على واشنطن، وهو متحقق بقدرات الصناعة الإعلامية والسينمائية والفنية والثقافية عموماً، علاوة على الريادة العلمية والبحثية والمؤسسية
 

إنّ معضلة الدبلوماسية الشعبية الأمريكية في العهد الجديد هي أنّ الإدارة في واشنطن لا تبدو مكترثة بمواصلة نهج "كسب العقول والقلوب" في الخارج مطلقا، كما لا يمكن معها المراهنة على أي جهود تلميع أو مساعي تجميل. فسيد البيت الأبيض ذاته يحرص على إرسال إشارات تهديد ووعيد في اتجاهات شتى حول العالم، حتى نحو حلفائه الأوروبيين وأتباعه الملتصقين به، دون أن يبالي بانتقاء كلماته. وتنطوي مواقف ترمب العدائية نحو وسائل إعلام بلاده ذاتها؛ على مفارقة ما كان بالوسع تخيّلها مع أسلافه الذين حرصوا على كسب الشاشات المحلية والعالمية. ومع كل يوم إضافي يستحوذ فيه نهج الرعونة على البيت الأبيض؛ تُواصِل القيمة المعنوية للعلامة البازغة المسماة "أمريكا" مسيرة تدهورها.

 

سيبقى لأمريكا تأثيرها المتجاوز لأي إدارة تتعاقب على واشنطن، وهو متحقق بقدرات الصناعة الإعلامية والسينمائية والفنية والثقافية عموماً، علاوة على الريادة العلمية والبحثية والمؤسسية، لكنّ ذلك كله لن يصلح الخسائر الجسيمة التي يُلحقها البيت الأبيض بصورة الولايات المتحدة في العالم وفي عيون نخبتها وأجيالها أيضاً.

 

قد يذكر التاريخ يوماً أنّ رئيسا أمريكياً اسمه كنيدي استحوذ على قلوب الألمان والأوروبيين عندما وقف في برلين الغربية قائلا: "أنا برليني!"، وأنّ أوباما دخل البيت الأبيض محبوباً لدى قطاعات الشباب حول العالم واستمالت خطاباته البشرية، ثم لم يتردد في مخاطبة العالم الإسلامي في القاهرة واسطنبول بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وتقديم التحية بعبارة "السلام عليكم!" التي قوبلت بتصفيق حار رغم الواقع المضلل للسياسات الأمريكية. كانت تلك مشاهد من زمن أمريكي مضى، يواصل ترمب تقويضه بلا هوادة مع كل قرار يتخذه أو خطاب يلقيه أو تغريدة يطلقها. إنها أمريكا إذ تزهد بمساحيق التجميل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.