شعار قسم مدونات

جوثام.. من الخلف إلى الأمام

blogs جوثام

"أنا لا أريد أن أقتلك، ماذا يمكنني أن أفعل بدونك؟ أعود لأسرق رجال العصابات؟ لا، لا، لا..  أنت تكمِّلني يا باتمان"

(الجوكر)

  

في الميثولوجيا الخالدة "باتمان" حينما أُلقي القبض على الشرير الأعظم في تاريخ السينما، "الجوكر"، لم يستطع المحقق جوردن أن يكتشف شيئا عن ماضيه ولا عن خططه المستقبلية، بينما اكتفى الجوكر بإجابة واحدة أنهت محاولات التحقيق: "سيد جوردن، هل أبدو لك كرجل يملك خطة!؟"..

 

لحكاية باتمان طابعٌ خاص في ذاكراتنا، فمن لم يرها طفلا في حلقات الكارتون، فقد شاهدها شابا في واحدة من نسخها المتكررة. جميعنا نعرف المحقق جوردن والجوكر وهارلي وذا الوجهين والبطريق وريدلر ومجانين أراكهام. لكن من أين جاء الجوكر؟ وكيف بنى هذا الشرير الفريد فلسفته المحيرة؟ وكيف وقعت طبيبة بارعة مثل هارلي في حبه؟ وكيف خلق البطريق كل هذا الحقد في دواخله؟ ولماذا يُترك ذو الوجهين ليعاني مرتين ويلقى حتفه صريعا بهذة الطريقة المأساوية؟ وهل مجانين أركهام شريرون حقا؟

 

ما رأيك في عمل يحاول الإجابة عن هذا كله؟ كيف نشأ الشر؟ ولمَ اتخذ هذا البعد العنيف؟ ولِم لَم تفلح أية محاولة للعودة بهم إلى الصواب؟ هل باتمان هو الخير حقا؟ وهل خصومه هم الأشرار دائما؟ التنقيب في تاريخ خصوم باتمان ومحاولات الوقوف على لحظاتهم الأولى وتحولاتهم الفريدة، والبعد بعدسة الكاميرا عن باتمان قليلا وإفساح المجال لخصومه كي يعتلوا المسرح وينالوا زاوية الاهتمام.. كل ذلك لم يكن بعيدا عن عقول الكتاب والمؤلفين، هناك أعمال أبرزها "الفرقة الانتحارية" حاولت الإجابة قليلا عن هذا كله، لكنها لم تحقق أبدا جانب الشمول والعمق والفلسفة.

 

لِم يحاول
لِم يحاول "الجوكر" -باعتباره أيقونة للشر- أن يحافظ على بقاء باتمان -أيقونة الخير- بكل طريقة ممكنة؟ ولِم يعجز باتمان في كل مرة عن أن يقضى على خصمه اللدود رغم قهره تماما؟
 

أما "جوثام" -وهو مسلسل تلفزيوني أمريكي خيالي شخصياته مستوحاةٌ من سلسلة باتمان ويحمل اسم المدينة التي وقعت فيها الأحداث- فيبدو عملا فريدا من نوعه يحاول الغوص في هذا كله، متصدرا بما يملكه من متسع وقت بخلاف ضيق الأفلام، وكاتب بارع يرتب مشاهده في معادلات رياضية معقدة مثيرة للإعجاز، فلا يخرج النص أبدا عن ميثولوجيا القصة الأم، ما يجعل المُشاهد يستشعر وكأنه يشاهد ما تبقى من الفيلم الشهير، دونما انفصال.

 

التجربة هذه المرة مختلفة ومثيرة جدا، فالكاتب لا يبنى أبطال عمله في قالب تصاعدي تقليدي كما جرت العادة في الأعمال الفنية الميتافيزيقية، بل يعتمد كليا على معرفتك بنهاية القصة، فيدخل مباشرة في الموضوع ويعرض لك بإسهاب، كيف وصل هؤلاء الأبطال الشريرون إلى ذلك المشهد الأخير، مازجا فلسفات مثيرة في ثنايا المشاهد.

 

بعض المعارك يجد فيها أصحابها الدفء والقرار، ويروحون يبذلون أكبر جهد لاستمرارها كما هي، ربما لأنها تمنحهم البطولة المفقودة، أو لأنهم يخافون من تحديات البحث عن خصم جديد

في العمل أسئلة فلسفية كثيرة، يصعب على مقال واحد حصرها، لكن أبرزها ما يتعلق بالشرير المهرج العظيم: لِم يحاول الجوكر -باعتباره أيقونة للشر- أن يحافظ على بقاء باتمان -أيقونة الخير- بكل طريقة ممكنة؟ ولِم يعجز باتمان في كل مرة عن أن يقضى على خصمه اللدود رغم قهره تماما؟ ومن أين اكتسب الجوكر هذه الثقة حينما راهن باتمان على أنه لا يستطيع قتله، لأنه يحتاجه؟ ما القيمة التي يجدها الجوكر في بقاء باتمان؟ أو بالأحرى، ما القيمة التي يجدها كل منهما في بقاء الآخر على قيد الصراع؟

 

في محاكمة باتمان الصورية الشهيرة في سجن أركهام، قالت "هارلي"، مساعدة الجوكر وحبيبته من طرف واحد، إنها ممتنة جدا لباتمان، لأنه لولا وجوده ما كان الجوكر ليكون موجودا.. بدت هارلي متفهمة جدا لفلسفة سيدها. إن كل واحد من الخصمين يكمّل الآخر ويشرعن وجوده. ربما وجد كلٌّ منهما في وجود الآخر هدفا لحياته، وربما أيضا يعرف كل واحدٍ منهما أن اختفاء الآخر يضعه في زاوية الضياع بحثا عن "معركة" و"غاية".. هذا عجيب جدا في الحقيقة إذا ما ألقيناه على مقصلة الواقع.

 

مثلا، لماذا شعر المقهورون بالتيه فور سقوط الأنظمة التي كانت تظلهم بالقهر إبان الربيع العربي؟ ولم احتاجوا وقتا طويلا لاستيعاب أنه لا الخصوم القديمة عادت موجودة ولا السجون أيضا؟ وكيف وجودا أنفسهم فجأة يبحثون عن أركان الصراع الأساسيين، الخصوم؟ ولم ثارت بداخلهم أسئلة حول غاية وجودهم بعدما انتهت المعركة وغاب الخصم اللدود؟

 

إن بعض المعارك يجد فيها أصحابها الدفء والقرار، ويروحون يبذلون أكبر جهد لاستمرارها كما هي، ربما لأنها تمنحهم البطولة المفقودة، أو لأنهم يخافون من تحديات البحث عن خصم جديد.. يبدو أمرا صعبا أن تجد خصما يريحك وتريحه، تتفهمان بعضكما البعض وتحفظان لنفسيكما في خاطر كلٍ منكما عِشرة وخلطة وتاريخا.

 

أعدِ قراءة الفقرة السابقة، ألا يبدو غريبا أن تجد ألفاظها -هي هي- كأنها تصف علاقات الحب والود والغرام؟ هل يمكننا أن نقول إن صراعات البشرية كلها تخضع للاعتبارات نفسها مهما اختلفت زاوية المعالجة؟ أو أنه لا يكمن الأمر في الخير والشر، بل في حاجة الإنسان الدائمة إلى شريك، يحفظ للتجربة إثارتها وحضورها؟ أو أن علاقة ما خفية تربط الشرير بالمقاوم، كما تربط الحبيب بالحبيب؟ هل هذا ما كان الجوكر يسعى إلى إثباته حقا؟ ربما!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.