شعار قسم مدونات

ماذا لو أخطأ جحا في عدِّ "غنماته"؟

blogs نجاح

كلنا يعرف المثل الشعبي عن الشخصية الفكاهية جحا الذي يحكي أن أناساً قالوا لجحا: "عدَّ غنمك يا جحا"؛ فأجابهم: "واحدة قائمة، وواحدة نائمة"، أو كما يقال باللهجات العامية: "عد غنماتك يا جحا"؛ قال: "واحدة قايمة، وواحدة نايمة"، ويُضرَب هذا المثل للدلالة على المعدوم أو من لا يمتلك إلا النزر اليسير من متاع الدنيا. غير أني أرى أن هذا المثل يشمل كذلك ما نمتلكه من قدرات؛ فضعيف القدرات سيجيب الإجابة نفسها حين يُطلب منه عدَّ غنمه، أو قدراته في هذه الحالة. وفي هذه الحالة أتساءل: ماذا لو أخطأ جحا في عدِّ "غنماته"؟ أي أن المرء أخطأ في تقدير ذاته، وهذا موضوع حديثنا التالي.

ماذا يعني تقدير الذات؟

عرَّف عالم النفس أبراهام ماسلو تقدير الذات بأنه: "قدرة الفرد على استغلال طاقاته وقدراته إلى أقصى حد ممكن يحقق فيها طموحاته وذاته". فيما يرى "كوبر سميث"، العالم وصاحب النظرية والمقياس الخاصَّيْن بتقدير الذات، أن تقدير الذات هو: "حكم الفرد على ذاته من حيث الاستحقاق، والذي يتضح من خلال الاتجاهات التي يتمسك بها ويحافظ عليها نحو هذه الذات. "فتقدير الذات إذن هو الصورة التي يرسمها الفرد لذاته، وهو التقييم الذي يضعه لنفسه، وهذا يعني تحديد اتجاهات قبول الفرد لذاته أو عدم قبوله لها.

ومخطئ من يظن أن تقدير الذات يتكون عندما يبلغ الإنسان أو حين يبدأ في تحديد طموحه ورغبته المستقبلية؛ فتقدير الذات يبدأ فعليًّا منذ الطفولة المبكرة مع بداية وعي الطفل بنفسه وإدراكه لذاته، ثم يبدأ بعد ذلك بناء تقدير الذات متخذاً شكل سلسلة متصلة من السمات تأثر فيها مجموعة من العوامل عبر المراحل العمرية المختلفة، ولا تتوقف إلا بانتهاء العمر.

مفتاح تقدير الذات يقوم أساساً على كيفية معرفة الإنسان بنفسه، ومن خلال ذلك يتمكن من تقدير ذاته تقديراً حقيقيًّا

ويقسم علماء النفس تقدير الذات إلى قسمين: شامل ومكتسب؛ فيعود تقدير الذات الشامل إلى ميل الإنسان العام للافتخار بالذات؛ أي أنه ليس مبنيًّا على مهارة محددة أو إنجازات معينة؛ وإنما نابع من داخل كل شخص، إذ لدى كل إنسان ميل فطري لإدراك التفوق والتميز، وهو يتحرك ويسعى وفق ذلك للوصول لهدف ما قد وضعه لنفسه، ولا يشترط أن يكون هذا التقدير حقيقيًّا؛ إذ يمكن أن يرى الإنسان نفسه على خلاف حقيقته، كما أن هذا التقدير غير مرتبط بنجاح أو فشل، ما يعني أنه حتى الأشخاص الذين أخفقوا في حياتهم ما يزالون ينعمون بدفء تقدير الذات العام، حتى لو لم يحققوا أي نجاح في حياتهم. أما تقدير الذات المكتسب فهو التقدير الذاتي الذي يكتسبه الشخص من خلال إنجازاته؛ فيحصل رضاه الداخلي بقدر ما حقق من نجاحات، فهذا التقدير الذاتي يتكون وينمو بناء على ما يحققه المرء من إنجازات.

ومن هنا ندرك أن تقدير الذات يبدأ مع مراحل الطفولة المبكرة كتقدير شامل؛ ثم ينمو عبر التقدير المكتسب الذي يتحقق بالخبرة والممارسة والاحتكاك والإنجاز. كما أن تقدير الذات ليس بالضرورة أن يكون حقيقيًّا وواقعيًّا؛ بل أحياناً يكون نرجسيًّا يتخيل فيه المرء ما ليس فيه؛ لذلك يقول السياسي الأمريكي ورئيس التحرير الأسبق لصحيفة بورتسموث ديلي تايمز جيمس دبليو نيومان: "تقدير الذات هو مسألة نسبية متفاوتة؛ فلا تستطيع أن تقول أن لدي تقديراً لذاتي أو ليس لدي تقدير لها، أنت تقع في موضع ما من مقياس يترواح من السلبية الشديدة إلى الإيجابية الشديدة، ما بين التقدير المرتفع للذات والتقدير المتدني لها".

العوامل المؤثرة في تقدير الذات

أشار العلماء إلى أن العوامل المؤثرة في تقدير الذات تتمثل في محورين رئيسيين: الفرد نفسه، والبيئة المحيطة به. ومن العوامل المتعلقة بالفرد نفسه: صورة الفرد عن ذاته -قدراته العقلية- مواصفاته الجسمانية- مستواه التعليمي وطبيعة وسطه التعليمي. ومن العوامل البيئية: الوسط الأسري -المحيط الاجتماعي- مدى عدالة الدولة وتقديرها لأبنائها.

كيف يعرف الإنسان نفسه؟

مما سبق يتضح أن مفتاح تقدير الذات يقوم أساساً على كيفية معرفة الإنسان بنفسه، ومن خلال ذلك يتمكن من تقدير ذاته تقديراً حقيقيًّا. كي تعرف قدراتك؛ عليك أن تسلك ثلاثة مسالك:

الأمر الأول: بالتأكيد أنه خلال سنين عملك ومن تقارير تقييمك من مدرائك قد تبينت لك ملامح قدراتك وما تتميز به وما أنت متمكن فيه؛ فخذ ورقة وقلماً واكتب في نقاط محددة ما الذي تتقنه من خلال هذه الأمور، وأضف إليها ما لم تكشفه سنين العمل بعد مما تملكه من قدراتك.

الأمر الثاني: هناك العديد من البرامج والتطبيقات التي تساعدك على معرفة ملكاتك وقدراتك، ومن هذه مواقع إلكترونية تساعد في تحديد القدرات ذكرت بعضها في مقالتي السابقة: كيف تجعل من نفسك علامة تجارية؟!

الأمر الثالث: التجربة دون توقف، وأن تكون تجربة متنوعة وفي مجالات مختلفة؛ فـ"إذا لم تبحر قط، أو التقطت أداة موسيقية وحاولت تعلمها، أو حاولت كتابة الرواية، فكيف يمكنك معرفة إذا كان لديك موهبة لهذه الأشياء؟" كما قال السير كين روبنسون؛ فجرب باستمرار، ومارس أشياء مختلفة لتصل إلى ذاتك.

الإنسان حين يشعر بتقدير منخفض لذاته لا يتوقف عن انتقاد نفسه، وبهذا يدمر ذاته؛ فالمطلوب هو مكافحة هذا الشعور من خلال التعاطف مع الذات
الإنسان حين يشعر بتقدير منخفض لذاته لا يتوقف عن انتقاد نفسه، وبهذا يدمر ذاته؛ فالمطلوب هو مكافحة هذا الشعور من خلال التعاطف مع الذات
 

ومما سبق يتضح أن تقدير الذات يأتي من:
* قيمة الذات: أي محبة الفرد لنفسه وقبولها دون قيد أو شرط، والشعور بأن هذه النفس من حقها أن تعيش حياتها بسعادة.
* الكفاءة الذاتية: وهي اعتقاد الفرد بأنه قادر على التكيف مع المتغيرات، والتعامل مع التحديات التي يواجهها في حياته. وهذا ما أدركه يوسف عليه السلام عن نفسه فقدَّر ذاته: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).

كيف تعزز ذاتك؟

يضع عالم النفس جاي وينش، الذي يمتلك في هذا المجال خبرة تتجاوز العشرين عاماً، خمس طرقق لتعزيز الذات؛ هي:

1- استخدام التأكيدات الإيجابية بطريقة صحيحة: وهي وسيلة تنطوي على تكرار الجمل الإيجابية وملء العقل بالأفكار الإيجابية حتى يبدأ في تصديقها.

2- تحديد الشخص ما يجيده: ويعني اكتشاف المهارات الأساسية والمواهب وإيجاد الفرص المناسبة لتحقيق الإنجازات في المجالات التي يجيدها.

3- تعلم قبول المديح: فالشخص ذو المشاعر السيئة تجاه نفسه يميل إلى رفض أية مجاملة تقال له ويعتبرها مجرد أكاذيب؛ لذا عليه تعلم التسامح تجاه المجاملات، وعلى المدى البعيد سيتلاشى الدافع خلف تكذيب المجاملات، وسيبدأ بتصديق أنها ليست كلها مجاملات؛ وإنما منها أشياء جيدة حقيقية يقولها الآخرون عنه.

4- التوقف عن نقد الذات باستمرار: فالإنسان حين يشعر بتقدير منخفض لذاته لا يتوقف عن انتقاد نفسه، وبهذا يدمر ذاته؛ فالمطلوب هو مكافحة هذا الشعور من خلال التعاطف مع الذات، وأن يفكر مرتين حين يقول لنفسه أن كل الأشياء التي يقوم بها خاطئة.

5- تذكير النفس بقيمتها الحقيقية: فإذا فشل الشخص في الحصول على ترقية على سبيل المثال يمكنه أن يكتب قائمة بالأشياء التي تذكره بقيمته كموظف، مثل أن يكون شخصاً موثوقاً به، ويجيد مهارة ما، ويعمل بجد.

يقول جون بوروز الكاتب وعالم التاريخ الطبيعي: "الدرس الذي تكرره لنا الحياة باستمرار هو: انظر تحت قدميك؛ فعادة ما يكون المصدر الحقيقي لقوتك أقرب مما تعتقد.. إن إغراء البعيد والصعب خادع.. الفرصة الجيدة تكون أينما كنت.. لا تحتقر وقتك ولا مكانك الخاص.. كل مكان يمكن أن يكون مركز العالم". ومن يدري ربما لو نظر جحا تحت قدميه جيداً لاكتشف أنه قد أخطأ في عدِّ "غَنَماته" وأنها أكثر منن "واحدة قايمة وواحدة نايمة" عدداً وجودة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.