شعار قسم مدونات

ليتني أتكلّم العربية!

blogs اللغة العربية

من البديهيّ أن يكون العنوان مستفزّا للكثيرين، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بإحدى مقوّمات الضبط الاجتماعي كاللغة والدين والأخلاق. لكن جاك داريدا وفي معرض حديثه عن التهويمات المعرفية قال: اعتمد ما تشاء من مفاهيم لكن بشرط أن تضمن تعريفها للناس. قبل الخوض في تفاصيل الموضوع أريد أن ألفت عناية الجميع إلى أنّ هذا البحث لا يهدف أبدا إلى استهداف اللغة العربية من منطلق إيديولوجي أو التنقيص من قيمة المفسّرين والمفكّرين الذّين رسّخوا نظرية صفاء وقدم اللغة العربية.

 

هذا البحث يهدف إلى إماطة اللثام عن هذا الطرح الشائع. بعيدا عن الشوفينية، وانطلاقا من بانوراما تاريخية واعية خاضعة لبارومتر كرونولوجي دقيق جمع بين الجغرافيا والتاريخ نلمس أنّ هناك دلائل قوية تقطع بأنّ اللغة العربية التي نتكلّمها الآن وهنا ليست بذلك النقاء والاستقلالية العرقية والتاريخية كما يصوّرها العرب منذ مئات السنين تحت شعار "العربية لغة القرآن". فقد رسّخوا في أذهاننا بأن العربية لغة قديمة لا تشوبها شبهة التقليد والتسلسل ولا تشكو آثارا جانبية كالرطانة مثلا.  لكن بإسقاط هذا الطرح على السياق التاريخي نكتشف بأنّ لغتنا العربية اليوم ليست كما يقولون.

 

اللغة العربية النقّية والقديمة، العربية القحّة كما جاز تسميتها، كانت بالأساس في جنوب شبه الجزيرة العربية تحديد في مناطق نفوذ الحميريين ولهذا سمّيت "العربية الجنوبية الحميرية". أمّا من العراق إلى الشام فكانت اللغة المتداولة حينها هي "الآرامية". في الفترة ما بين 2324-1850 قبل الميلاد وتحديدا في مدينة "أور" القريبة من "بابل" في العراق ولد النبّي "ابرام" أو "إبراهيم" في عهد الملك "النمروذ بن كنعان" وكان وثنيا ولمّا بعث النبّي "إبراهيم" رفض كثيرون دعوته وأصرّوا على عدم ترك عبادة الأوثان ممّا اضطرّ "إبراهيم" للهجرة صحبة زوجه "ساراي" أو "ساره" وابن أخيه "لوط" الذّي استقرّ فيما بعد في قرية اسمها "سدوم".

 

ستلاحظون الفرق الكبير بين الخطّ الذي كتب به القرآن والخطّ الذي نكتب به اليوم. خطّ القران هو خطّ عربيّ نقيّ أمّا خطّنا اليوم هو سليل السريانية

عرف "إبراهيم" بالنبيّ العابر لنهري دجلة والفرات وسُمّي أتباعه بالعبرانيين ولغتهم بالعبرية. وصل "إبراهيم" إلى مصر وتزوّج من "هاجر" التّي أنجبت له "إسماعيل". تربّى هذا الأخير بين مصر ومكّة حتّى بلغ 14 سنة وكان يتحدّث اللغة "العبرو-أرامية". مرّت سنوات حتّى أصبح "إسماعيل" شابا وكان يرابط قرب الكعبة مع أمّه، علما بأنّ قبائل الجنوب من حميريين وقحطانيين وعدنانيين سبئيين كانوا يحجّون إلى الكعبة كلّ عام، فصادف أن خيّمت قبيلة حميرية تدعى "جرهم" قرب خيمة "إسماعيل" وأمّه "هاجر" فتزّوج "إسماعيل" من إحدى بناتهنّ. هي كانت تتحدّث "العربية الجنوبية" وهو يتحدّث "العبرو-أرامية"، فتداخلت اللغتين ونتج عنهما اللغة العربية التّي نتحدّثها اليوم. ولهذا تقول العرب قديما: أبناء إسماعيل عرب مستعربة. قالوا عرب مستعربة ولم يقولوا عرب عاربة لأنّ لغتهم هي نتاج للعربية الحميرية والعبرو-أرامية.

 

طبعا، سكون هناك عديد الاستفسارات، كلغة القرآن مثلا، آخرون سيقولون الخطّ العربي، من ناحية أخرى لغة أهل قريش.. إلخ من التساؤلات المشروعة بطبيعة الحال. ولرفع هذا اللبس أقول أنّ لغة القرآن هي لغة عربية قحّة قديمة كان يتكلّمها الجنوبيون ولهذا فوجئ بها شعراء قريش ولم يقدروا على مجاراة كلام النبيّ "محمّد" ممّا دفعهم للقول أنّه ساحر يسحر الناس بحلو كلامه.

 

أمّا في خصوص الخطّ العربي، ستلاحظون الفرق الكبير بين الخطّ الذي كتب به القرآن والخطّ الذي نكتب به اليوم. خطّ القران هو خطّ عربيّ نقيّ أمّا خطّنا اليوم هو سليل السريانية ويكفي أن نشير إلى التشابه الكبير في بعض الحروف بين اللغتين، مثلا السريانية تقول "اولف" على حرف الألف وترسم عصا مائلة، حرف الميم أيضا والباء إلخ.. في الأخير، أريد أن أشير إلى أنّ اللغة العربية في كلّ أحوالها تبقى لغة ثريّة، تبقى قبلة عديد الباحثين العرب والمستشرقين وثراء مفرداتها لا تضاهيه أيّ لغة أخرى بشهادة المستشرق الإسباني "ميغال اسين بلاثيوس".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.