شعار قسم مدونات

لعنة البحث عن الموهبة لا زالت تطاردني!

blogs - امرأة

حينما كنت في التاسعة من عمري كنت أجلس حول مائدة الطعام مع أسرتي وأقربائي حيث كان يتحدث الجميع فيما بينهم غير عابئين بطفلة تأكل بصمت قربهم مستمعة لأحاديثهم ولما قد يحيك شخصيتها إلى الأبد. وهنالك قال والدي الحبيب جملة رسمت طريقة تفكيري بعدها حتى اللحظة.

 

"إن كل إنسان على الأرض يملك موهبة معينة وعليه أن يسعى لاكتشافها"

موهبة؟ كنت قد سمعت هذه الكلمة سابقاً إلا أنها لم تكن تعني لي شيئاً حتى ذكرها والدي تلك الليلة وأكد حتمية وجودها لدى كل شخص منا وأنه يجب علينا أن نطورها ونستغلها. ولكن فما هي موهبتي؟ فكرت حينها. ظل ذلك السؤال يطاردني طيلة أيام دراستي المدرسية وحتى الجامعية وأنا أردد في قرارة نفسي أنني يتوجب على حكماً أن أكون موهوبة في أمر ما لا أعلمه! كنت على الأقل حينها أدرك عشقي للغات وسرعتي في تعلمها ولكن مهلاً فاللغات ليست بموهبة! قلت لنفسي بيأس.

إن أكثر ما نفتقره في أنظمتنا التعليمية هي إتاحة الفرصة لأولادنا كي يكتشفوا مواهبهم فهذه المهمة لا تلق فقط على عاتق الأهل وحدهم بل للمدرسة أيضاً الدور الكبير فيها دون التقليل طبعاً من شأن دور المنزل كذلك على حد سواء. ولن يتمكن الطفل من إدراك ذاته ومواهبه وكل ما حوله يجره باتجاه نمطي معين يتفق مع مجتمعه ومعتقداته لتجد مثلاً أن السمعة الاجتماعية المرموقة يحظى بها الأطباء مثلاً أكثر من غيرهم فتجد أن أغلب الأهل يسعون لإدخال أبنائهم كليات الطب بغض النظر عن رغبة الأبناء أنفسهم بذلك.

من بحثي عن الموهبة بدأ بحثي عن هدف لحياتي كالانكباب على الأعمال التطوعية وإلى جانب ذلك فقد تشجعت مؤخراً على البدء بمشاركة كتاباتي علناً علماً أن محبتي للكتابة لم ترق بعد لمستوى الموهبة

إن بحثي عن موهبتي الدفينة هذه ظل يطارني سنين طويلة وأنا أنتقل في مقتبل عمري وبداية مراهقتي من كتاب لآخر من أدب لفلك لفلسفة حتى وصلت أخيراً إلى مرحلة اعتقدت عندها أنني لا أملك أية موهبة تذكر وأن والدي قد مخطئاً في تصوره! ولكن وللأسف فإن جملته تلك ظلت مستحوذة على عقلي و غيرت نظرتي لذاتي فمنعني ذلك من الانكسار لليأس بعد أن صرت أبحث عن موهبة إنسان ما عند لقائي بأناس جدد حتى قبل صفاتهم الأخرى وكلي أمل بأن أجد من خلال تعارفي على غيري كنزي الضائع وموهبتي الحتمية!

إلا أن ذهابي يومياً إلى المدرسة بحمل ثقيل من الكتب التي كنت أظنها حينها كالحجارة التي تثقل كاهلي وأظنني معها كسيزيف الإغريقي يجر الصخرة عقاباً من الآلهة! ومع التزامي المفروض بكافة أوامر وتعليمات الكوادر التعليمية حولي بينما تتقاذفني هناك رياح الملل من تعقيد المناهج وصرامة الأساتذة الذين كان أكبر أهدافهم التعليمية هي أن تمضي حصصهم بسلام دون أن يعكر صفوها تساؤلات طفل أو مراهق غارق بالتساؤلات!

إنني أقر بعد اطلاعي على أنماط تعليمية مختلفة عما أعرفه بأنني كغيري من الأطفال كنت بطريقة ما ضحية نمط تعليمي رغم قوته إلا أنه لم يجعل مني شخصاً عملياً يدرك قدراته وكيفية استخدامه لها كي يصبح شخصاً فاعلاً في مجتمعه. ستقول أن الحياة طبعاً هي أكبر مدرسة ولكن دعني أذكرك بأن المدرسة التعليمية نفسها هي من ستصقل بالدرجة الاولى شخص ابنك او ابنتك قبل تخرجهم منها وانتقالهم إلى مدرسة الحياة.

قررت أخيراً أن الموسيقى "وإن أثارت هذه الكلمة حفيظة البعض ولكن حلمكم علي فأنا اتحدث عن طفلة في مقتبل عمرها" قررت إذاً أن الموسيقى هي حلمي الضائع وموهبتي الدفينة التي ستتفجر حتماً فما كان مني إلا أن اقتنيت آلة الغيتار (الجيتار) وبدأت تعلمها بدأب وشغف وأنا ألاحق العلامات الموسيقية وأحاول ضبط الوزن داخلي ولطالما استفزني وجود هواة حولي يسمعون لحناً ما ويحيلونه فوراً علامات موسيقية دون أي جهد جهيد كذلك الذي كنت أبذله ليل نهار وأصابعي تدمى وأنا أحاول البحث عن الوزن الذي سأم من بحثي عنه طويلاً في الأماكن الخاطئة!

حتى قال لي أحد زملائي ورفاق دربي مرة عن حفلة موسيقية لآلة البايب ارغن والتي لم أكن حينها أعلم منها سوى اسمها فقررت الذهاب لحضور الحفلة ودهشت حقاً من صوتها وحضورها الأخاذ حتى أحسست أنها السلطان بين كل الآلات الثانية ومضت ساعة الحفلة الأولى وأنا غير منتبهة إلى أن فمي كان قد نشف تماماً وبدأ الجفاف يسري لحلقي.. لقد نسيت فمي مفتوحاً! نعم! إنها الإشارة! إشارة أنني شغفت (وأنا الشغوفة دائماً وأبداً بكل شاردة وواردة) شغفت حباً بهذه الآلة الضخمة التي قررت حينها تعلمها إلا أنني أدركت أنني لن أستطيع اقتناءها ولن يستطيع أحد اقتناءها كذلك بل قد تتمكن من العيش داخلها نفسها نظراً لكبرها وضخامتها. وكانت هذه الآلة كتفاحة نيوتن التي سقطت أمامه (إلا أن سقوطها أمامي حقاً كان قد يودي بحياتي!) ولكن بعيداً عن المزاح، فقط كانت هذه الأمسية الموسيقية هي تفاحتي التي ظننت أنني أخيراً وجدتها.. موهبتي الدفينة.

قررت حينها بدأ تعلم آلة البيانو مما سيساعدني لاحقاً على بدء تعلم البايب ارغن والتي تحتاج إلى اليدين والقدمين معاً لتعلمها (وقد تضطر بالاستعانة بجسدك كامله في لحظة انغماسك في العزف) وعادت حينها ثقتي بكلام والدي وبالمواهب وظننت أنني سألقي الخطب والمحاضرات حول ضرورة البحث عن الموهبة وأجعل من نفسي قصة نجاح وأيه نجاح! فما إن بدأت تعلم البيانو حتى حصلت على منحة إيفاد لاستكمال دراساتي اللغوية خارجاً واضطررت للابتعاد عن موهبتي الدفينة التي أحمد الله أنها ظلت دفينة!

إن غايتي من مشاركة رحلة بحثي أيام المراهقة عن الموهبة ماهو إلا لإيضاح أهمية دور التعليم من جهة والبيت من جهة أخرى بصقل شخصية الطفل وتحديد غاياته وأهدافه فليست العبرة هي بجلب الأولاد فقط إلى الحياة ورميهم في أحضان الحظ فنحن مسؤولون تماماً عن كل طريق يحاولون سلكه وعن كل فكرة يسمعونها او كلمة يتعلمونها وهذه المسؤولية لن تزول بتغاضينا عنها او تبرير عدم اهتمامنا بهم أمام الله.

إن رحلة بحثي عن الموهبة لم تنتهي ولا أظن للأسف انها ستنتهي وقد يولد البعض منا بمواهب واضحة أمامهم فتراهم منذ طفولتهم يبرعون في أمر ما حتى ومع وجود كل المعيقات في بيئتهم تراهم منكبين على تعلم امر ما ببراعة وإبداع دون تلقي أي تعليم خارجي. إن هذا النوع من الموهبة ليس حكراً في نظري على طفل دون آخر إنما قد تكون مجرد فرصة أتيحت لبعضنا دون غيره لاكتشاف موهبته وأنا لازلت عند إيماني المأخوذ من والدي العظيم حول حتمية تمتمعنا جميعاً بموهبة ما.

قد أصل يوماً ما إلى قناعة أنه قد يولد بشر معينون دون مواهب تذكر ولكن ذلك لن يعني أنه عليهم التقاعس عن السعي لإضفاء شيء جديد لمجتمعاتهم
قد أصل يوماً ما إلى قناعة أنه قد يولد بشر معينون دون مواهب تذكر ولكن ذلك لن يعني أنه عليهم التقاعس عن السعي لإضفاء شيء جديد لمجتمعاتهم
 

من بحثي عن الموهبة بدأ بحثي عن هدف لحياتي كالانكباب على الأعمال التطوعية وإلى جانب ذلك فقد تشجعت مؤخراً على البدء بمشاركة كتاباتي علناً علماً أن محبتي للكتابة لم ترق بعد لمستوى الموهبة إلا أنني قررت ألا أضيع عمري بحثاً عن التفاح المتساقط كي ألقي عليه كل شغف السنين الماضية في حين يوجد هنالك أشخاص بيننا لم تتسن لهم حتى فرصة النوم على سرير أثير أو تناول وجبة متوازنة ولم تترك لهم حياتهم فرصة التفكير حتى بمواهبهم أو تتيح لهم فرصة استغلالها.

قد أصل يوماً ما إلى قناعة أنه قد يولد بشر معينون دون مواهب تذكر ولكن ذلك لن يعني أنه عليهم التقاعس عن السعي لإضفاء شيء جديد لمجتمعاتهم وقد أرضى حينها بمواظبة العمل الخيري لإعطاء الفرص لغيري كي يجدوا مواهبهم يوماً ما أو قد أستطيع إنشاء طفل إذا رزقني الله بواحد أستطيع توجيه اهتمامي عليه وتمهيد الطريق له علّه يغدو ما كنت أسعى لأن أغدوه ويدرك مواهبه وتتاح له فرص تطويرها واستغلالها فيما يخدمه ويخدم المجتمع حوله. أو علّني أقتنع بعد عنادي الطويل وبحثي الدؤوب عن الموهبة بأن موهبتي هي في الحقيقة بحثي عن الموهبة! بأن موهبتي هي عنادي!

ولكن، فإن أهم ما وصلت إليه الآن بعد بحثي وما أود مشاركتكم به هو أن أنظمتنا التعليمية يا سادة هي أكبر عائق في وجه أبنائنا (وهذا لا يسقط بقية الأنظمة التعليمية من دائرة الشك تماماً) وأنني إن استطعت يوماً أن أغير حرفاً واحداً في أحد الكتب المدرسية أو أدخل طريقة تفكير جديدة واحدة على النظام التعليمي قد يمهد الطريق أمام غيري من الأجيال القادمة للتمتع بأنظمة تعليمية ناجحة يتمكون من خلالها إيجاد مواهبهم الخاصة ويستطيعون اختيار الطرق العملية الامثل للتعبير عنها في حياتهم ومستقبلهم، وعندها فقط سأرضى بعدم وصولي شخصياً إلى موهبة أو عبقرية ما وسأبتسم قانعة بأن عمري لم يضع هباءاً منثورا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.