شعار قسم مدونات

صحفيون اغتالتهم حروف الحرية!

blogs كتابة

لا شك أن ما ينعم به الغرب من تفوق حضاري على كل المستويات، كان ثمرة لجهود المفكرين من أبنائه منذ ما سمّي بعصر النهضة الأوروبية وبخاصة منهم فلاسفة الثورة الفرنسية من "أمثال فولتير" و"روسو" و"مونتسكيو" وغيرهم، أو بمعنى آخر هو ثمرة التفاعل وتصالح السياسة مع الفكر، إيمانا بأن علماء الأمة حماة مرابطون على ثغورها الفكرية والثقافية، كما أنّ جنودها حماة مرابطون على ثغورها الجغرافية، وأن قوتها ومناعتها كما تكون برجال الحرب تكون كذلك برجال العلم والفكر.

ولكن يبدو أن هذا التصالح لا يزال بعيد المنال في وطننا العربي ما دام رجال السياسة معرضين عما يقوله رجال الفكر من أبناء أمتهم، غير عابئين بما تحمله أقوالهم وكتاباتهم من مبشرات وطروح للخروج من التبعية والتخلف. وقليلون هم كتّاب الحرية في تاريخ الفكر العربي، وهم كتّاب نادرون بشكل عام، وأعني بهم أولئك الذين يكشفون للناس مدى الظلم الواقع عليهم ويعرفونهم على الذين يقومون بظلمهم كما يرشدونهم للطريقة التي يسلكونها للخلاص من هذا الظلم. فالناس دون وعي يمكن أن يستسلموا لصنوف من الإهانات والأذى لا تخطر على البال، وفي غياب الوعي اللازم عدم وضوح طريق للخلاص يمكن أن يكون يأسهم قاتما.

  

لا نهضة للعرب ولا تقدم في غياب ديمقراطية شعبية تساهم فيها الجماهير الواعية والمندمجة والمنظمة، لتحدد شكل إدارة المجتمع ومضمون حركته وتصبح -الديمقراطية-أسلوب حياة

ولعل شيخنا الجليل "عبد الرحمن الكواكبي" هو أحد هؤلاء الكتّاب النادرين، فقد كان معلما للصبية في مدينة حلب تحت وطأة السلطة العثمانية الباغية وعاين وجرب مظالم الولاة الأتراك ضد بلاده، وقد دخل الكواكبي السجن أكثر من مرة، وعطلت كل الجرائد التي أصدرها، ثم انتهى به الأمر مهاجرا في اصقاع العالم الإسلامي داعيا للحرية ومقاومة الظلم. ويحتل كتابه "طبائع الاستبداد" مكانة مهمة في تاريخنا الفكري حيث كتب بصراحة ووضوح يفوقان صراحة ووضوح فلاسفة النهضة الأوروبية مبينا أن الاستبداد بمختلف أوجهه هو العمود الفقري لظاهرة التخلف على كل المستويات، وأن المواطن في ظل الاستبداد يفقد حبه لوطنه. كما يرى أن الطاغية رجل يصل إلى الحكم بطريقة غير مشروعة وهو يسلك طريقه للحكم مستعينا بالمؤامرات والاغتيالات.

وتوالت الكتابات بعد الكواكبي، تؤكد أنه لا نهضة للعرب ولا تقدم في غياب ديمقراطية شعبية تساهم فيها الجماهير الواعية والمندمجة والمنظمة، لتحدد شكل إدارة المجتمع ومضمون حركته وتصبح -الديمقراطية-أسلوب حياة كاملا للفرد والجماعة والإدارة والدولة، ذلك أن الواقع الاجتماعي واحتمالات المستقبل لا يحدّدها أهل القمة على انفراد ولا أهل القاع على انفراد، وإنّما تحدد عبر جدلية بين القاعدة والقمة، لكل من الطرفين فيها دور مميّز يتأثر ويؤثر في دور الآخر، ويعتبر شرطا محددا لفعل الآخر ونتيجة من نتائج فعل الآخر في الوقت نفسه. قيل هذا الكلام منذ زمن طويل بصيغ مختلفة، وكنّا نأمل، بعد حصول دولنا على ما سمي بالاستقلال السياسي، أن ندخل عالم الديمقراطية والحرية من الباب الكبير، ونعيد بالفكر والساعد ما ضاع منّا من عزة ومنعة، ولكن الذي وقع غير ذلك.

 

صارت الحروف بنادق يقتل بها كتابها باحترافية كارثية وبأبشع الصور.. بيانا وإعلانا عن استمرار عصور متتالية من القمع الفكري واستبداد السلطة ولنتذكر معا "سليم اللوزي" الصحفي الذي بدأ رحلة نهايته بعد انتقاده للسلطة، حيث أصدر مجلة الحوادث بلبنان والتي تمت مصادرة أعدادها في مايو 1957.. وفي عام 1973 اضطر للهروب إلى لندن ليصدر المجلة من هناك، لكن للأسف لم يكمل بوحه فيها بعد أن عاد لدفن والدته المتوفاة في 25 شباط 1980.. عاد ليواجه سكرات موته حيث قبض عليه في المطار وعثر عليه مقتولا بطلقة في رأسه وذراعه اليمنى مسلوخة جلدها وأقلامه مغروسة في قلبه من الخلف.. قتلته حروفه الجريئة ونكلت به أشد تنكيل.

التاريخ يعيد نفسه حاليا بالحكاية المتواترة.. والتي بطلها اليوم المعارض السعودي
التاريخ يعيد نفسه حاليا بالحكاية المتواترة.. والتي بطلها اليوم المعارض السعودي "جمال خاشقجي"، كيف لا وهو يملك كم هائل من المعلومات باعتباره مستشارا إعلاميا منذ عام 2004 للأمير تركي الفيصل
 

ولتستعرض الذاكرة كشريط سينمائي ما نسيناه من 90 ثانية اختفى فيها رئيس التحرير رضا هلال أثناء هبوطه من مصعد عمارته ولا أحد شاهده بعدها يخرج منها.. اختفى يوم 11 أغسطس 2003 واختفت معه معارضته التي أجهها في صحيفته الأهرام. ومصير جبران غسان تويني مؤلم جدا باعتباره المدير العام لمجموعة النهار الإعلامية بلبنان، ومعارض قوي للتواجد السوري في الجولان، ويعارض أي تواجد غير لبناني في الأراضي اللبنانية، وهذا ما جعل النظام يفخخ سيارته بعبوة في12 ديسمبر 2005، وبهذا كتم النظام صوته بطريقته الوحشية.

في الأردن تعاد الأحداث وبتاريخ حديث عام 2016، طالب" ناهض حاتر-رئيس موقع كل الأردن الالكتروني وصحفي في صحيفة العرب اليوم-"الملك حسين بالإصلاح، والنتيجة دخوله السجن 15يوما، في تحقيقات انتهت سريعا بثلاث طلقات في الرأس ليسقط على أعتاب قصر العدل الأردني.. وأين هو ذلك العدل؟ والتاريخ يعيد نفسه حاليا بالحكاية المتواترة.. والتي بطلها اليوم المعارض السعودي "جمال خاشقجي"، كيف لا وهو يملك كم هائل من المعلومات باعتباره مستشارا إعلاميا منذ عام 2004 للأمير تركي الفيصل، المدير العام للاستخبارات العامة السعودية سابقا، والسفير السعودي السابق في لندن، ثم الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الأسباب وغيرها تجعل النظام السعودي يعجل بتغييبه، بحيث دخل مكانا لم يخرج منه ولم يعثر له فيه على أثر.. بدايته اختفاء مشابه لكل القصص.. ونهايته قد تكون بالتعذيب والقتل أو تكون مالا نهاية.. وتضليل من طرف قوى كبرى تريد اِلهاء العقول المفكرة بقضية ما بعيدا عن القضية الحقيقية التي تمس ترمب ومشاكل أخطر.

إننا يا سادة ندور في حلقة مفرغة بدايتها هي النهاية.. تلك البداية كلمات الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وهو واقف على منبر مسجد دمشق، كما روى السيوطي: "والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه". وكانت أيضا بيانا وإعلانا لا عن بداية عهده فقط ولكن عن بداية عصور متتالية من استبداد السلطة، والتي وكلت لنفسها مسؤولية محاسبة من وضع يده على مكمن الجرح الذي استنزف أعمار الشعوب، ولا نستطيع أن نتخلص من هذا المأزق إلا إذا فكرنا بصوت مسموع، وأن ندعم الفكر الذي يرفض كل شيء في الخفاء ويوافق على كل شيء تحت ضوء السماء.. ألا وهو ضوء الحق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.