شعار قسم مدونات

موراكامي.. كاتب يجعلك تعيش في متاهة ممتعة

موراكامي لديه عادة إطلاق عناوين لأغاني ومقاطع لمعزوفات عالمية على رواياته فمثلا عنوان روايته جنوب الحدود غرب الشمس هو أيضا عنوان أغنية لفرانك سيناترا

يرن منبهك كل صباح في نفس التوقيت فتجد نفسك تحدق بسقف غرفتك طويلا تغلق عينيك وتفتحهما مرارا وتكرارا وكأنك ترغب بأن يحدث شيء ما غير مكترث بماهيته ثم تسخر من نفسك كثيرا وتتذكر الوقت الذي ينفذ منك ثم هكذا وببساطة تغادر فراشك وتستسلم لكل ما هو روتيني وعادي في يومك قهوتك وهندامك ووسيلة المواصلات التي تركبها وعملك وزملائك في العمل تقذف بنفسك بين التفاصيل المملة للحياة اليومية.

هذا الصراع اليومي المتكرر مع المألوف الممل قد يعينك عليه كتاب لروائي ربما لم تسمع عنه قط من قبل فمثلا لو أن السؤال يطرح على من هو أكثر روائي يصلح لاستراحة ما بعد الظهيرة لأجبت حتما موراكامي فهو وحده ينتشلك من عالمك العادي إلى عالم آخر كل شيء فيه عادي هو الآخر وغير عادي على الإطلاق وخصوصا إن كنت من محبي القطط الموسيقى الكلاسيكية والمشي تحت المطر. كل ما يتعلق به هو بسيط ومعقد في آن واحد لذا فقد كان من الصعب ومن المثير أيضا إيجاد عنوان للمدونة فكرت ببادئ الأمر بـ موراكامي كافكا لكن ربما أكثر ابتهاجا وفكرت أيضا بـ موراكامي الغريب والمميز حتى أني شبهت موراكامي بالوجبة الأدبية الدسمة لكني قررت أخيرا اختيار عنوان يكون أكثر بساطة لعله يتلاءم وكل التعقيد.

موراكامي هو أحد أهم رواد الرواية السريالية حتى أن بعض النقاد يرون أن موراكامي قد صنع لونه الأدبي الخاص الذي ينفرد به هو لوحده فقد استطاع بأسلوبه المليء بعناصر غير مألوفة على أن يجعل من نفسه ظاهرة مثيرة للجدل في عالم الأدب. فهو الروائي الذي لا تتموقع أعماله أبدا في الوسط فإنما أنك ستحبها كثيرا أو أنك لن تعتبرها سوى مجرد قمامة وأنا أعني هذا حرفيا. أذكر أن روايته "جنوب الحدود غرب الشمس" كانت قد تسببت في إيقاف أحد أهم برامج الأدب في ألمانيا والذي كان يحظى بشعبية كبيرة بسبب خلاف بين النقاد المشرفين على البرنامج ليعود حديثا إلى الشاشة بوجوه جديدة.

التورط مع موراكامي وفيه كان في غاية الصعوبة أول رواية قرأتها له كانت "ما بعد الظلام" وقد تركتني حائرة بعدها أطرح الأسئلة مرارا وتكرارا

موراكامي وكما أردد دائما ليس بروائي يمكنك أن تقترحه على أحد هو روائي تكتشفه أنت بنفسك لكني قد أناقض نفسي بعض الشيء في هذا المقال. أغلب قرائه الأوفياء هم من اعتادوا نمطه الغريب ذلك يعني أن تألف الجو الذي يطغى على رواياته فينشأ بينك وبينه انسجام خاص فتصبح أعماله كملجأ خاص لك بعد يوم يعج بالوجوه المتشابهة والأحداث الفارغة وكثير من الصخب. ستتمشى كثيرا في شوارع طوكيو تحت السماء الممطرة وستستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز وتداعب القطط بين الفينة والأخرى ستتحول إلى شخص انطوائي يستمتع بعزلته وإن كنت كذلك حقا فستشعر أنك قد خلقت لتكون جزءا من عالم موراكامي.

لا أنكر أن التورط مع موراكامي وفيه كان في غاية الصعوبة أول رواية قرأتها له كانت "ما بعد الظلام" وقد تركتني حائرة بعدها أطرح الأسئلة مرارا وتكرارا لكني لم أستسلم فانتقلت إلى الغابة النرويجية التي تحدى من خلالها موراكامي نفسه ومن انتقدوه بأنه عاجز عن الإبداع في الرواية الواقعية فسقطت في الفخ رويدا رويدا وبدأت أسحب إلى عالمه وتحولت إلى أليس التي تاهت في عوالمه الغريبة.

تطغى الواقعية السوداء على بعض أعمال موراكامي فقد كتب عن سطوة الموت والصراع لأجل التمسك بالحياة وعن المرض والانتحار. تظهر هذه المواضيع خاصة في روايته الغابة النرويجية أو ابتسامة ناوكو عنوان النسخة المترجمة إلى اللغة الألمانية. أذكر جيدا أنني بعد أن أنهيت قراءتها وبدأت أستذكر أحداثها لاحظت أن أغلب الشخصيات المذكورة في الرواية ناهيك عن الشخصية الرئيسية إما أن ينتهي بها الأمر إلى الانتحار أو أنها مصابة بمرض عضوي أو نفسي. الغريب في الأمر أن هذا لم يسبب لي لا النفور ولا الكآبة لأن موراكامي يجعلك تتقبل أن الأمر جزء من الحياة ونتيجة منطقية لأحداث معينة في حياتنا فكأنه يقوم بتحضيرك فيبدو الأمر عاديا وكأننا تقبلناه قبل أوانه.

أما عن الانتحار الذي يعتبر ظاهرة في اليابان كان موراكامي قد علق عن الأمر أن هذا له علاقة بالاعتقادات البوذية التي لا تدين الأمر كما أن كثيرين يعتقدون أن امتلاك الفرد حق انهاء حياته أمر جميل. الحياة في رواياته حين ننظر إليها من الخارج تبدو عادية ولا يكاد يحدث فيها أي شيء لكن إذا أمعنا النظر إلى الداخل سنرى الكثير. أكثر ما يميزه هو طرحه الغريب وغير العادي، فمعه سيكون من الصعب عليك المحافظة على الخيط الذي يربطك بالواقع ففي كثير من الأحيان ستشعر وكأنك سافرت إلى بعد آخر وتحتار إذا كنت في عالم خيالي فيه شيء من الواقع أم أنك في واقع به شيء من الخيال.

موراكامي لديه عادة إطلاق عناوين لأغاني ومقاطع لمعزوفات عالمية على رواياته فمثلا عنوان روايته جنوب الحدود غرب الشمس هو أيضا عنوان أغنية لفرانك سيناترا
موراكامي لديه عادة إطلاق عناوين لأغاني ومقاطع لمعزوفات عالمية على رواياته فمثلا عنوان روايته جنوب الحدود غرب الشمس هو أيضا عنوان أغنية لفرانك سيناترا
 

وعلى الرغم من نجاحه العالمي واقترابه الشديد من جائزة نوبل للآداب في كل نسخة الا أنه لطالما كان عرضة للانتقاد بحجة أن أعماله لا تحاكي الواقع الياباني بقدر ما هي تحاكي واقع العالم الغربي. كما أن رواياته الحديثة قد لاقت العديد من الانتقادات حتى من قراءه الذين اعتادوا الدفاع عنه فيبدو أن موراكامي قد وقع في فخ التكرار. هاروكي موراكامي هو الابن الوحيد لأبوين اختصا في الأدب الياباني مما حفزه على الاطلاع على عوالم أدبية أجنبية فتأثر بأسماء مثل فيتزجيرالد ودوستويفسكي وغيرهم وكذا شغفه البالغ بالموسيقى الكلاسيكية الغربية جلي في رواياته.

أحدث أعمال الروائي هي مجموعة من القصص القصيرة تحت عنوان "رجال دون نساء" وهي مجموعة قصص قصيرة ورواية تم حديثا إصدار النسخة المترجمة منها إلى اللغة الإنجليزية تحت عنوان مقتل الكومنداتور الذي هو عنوان لمقطوعة دون جيوفاني لموزارت. موراكامي لديه عادة إطلاق عناوين لأغاني ومقاطع لمعزوفات عالمية على رواياته فمثلا عنوان روايته جنوب الحدود غرب الشمس هو أيضا عنوان أغنية لفرانك سيناترا. لكن بالرغم من إعجابي الشديد بأدبه وارتياحي به لن أنكر أنه وفي كل مرة كنت أكمل فيها قراءة رواية لموراكامي كنت أحس بعده بالفراغ وأسأل نفسي حسنا ماذا الآن؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.