شعار قسم مدونات

اشتقت لطيفك أبي..

blogs - أب كبير

هل سمعت عن رجل سقط سقوط حر من كوكب الحياة مرتطماً بالألم، سأحدثكم عن الفقد، القوة الطاغية التي تبعثر فيك الكائن الحي، تحرقه وتذروه فلا المجهول يجمعه ولا الطيف يشبعك. ذهب أبي دون رجعة، لم يعود كما وعد أمي، كان آخر عهدها معه نظرات تتحدث دون صوت لكنها كانت الأبلغ في حياتهما. رحل أبي وأنا لم أعرف سوى دموع أمي، وصراخات جدتي وكل من أحَب روحه، لم يهُن عليهم أن يُهال التراب عليه ليعيش حياته الخالدة ويبقوا هم وسط نيران الوداع.

اشتقت لطيفك أبي.. فالصور لم تعد تكفي لقد كبُرنا على التقاط القبلات من صورك الموجودة في كل زوايا حياتنا، كدنا نصافحها إلى حد الابتلاع، ولكنها لم تعد تُشبع الشوق الذي يزيد لهيبه كلما زادت سنون العمر. اشتقت لطيفك أبي.. كلما مررت بأقوام فيترحمون عليك ويتحدثون عن غرسك أيها الفارس، فإن صدقوا فأنت الترب والري أبي، ثم أعود لأفكر هينة كيف لو أصابني شيء من الحظ لأعيش معك ولأتلمس بعضاً من خلقك وفعالك. اشتقت لطيفك أبي.. نعتوا حياتنا بالمتكاملة، مراراً وتكراراً سمعناهم "لا ينقصهم شيء" وهم لا يدرون كل الجمادات التي تحيطنا لم تغنينا عن تلك الروح التي غادرتنا ولم يبقى منها سوى ذكريات وصور.

كثيرين هم من تمتموا لنا "تتضاءل حوائج الأبناء للآباء حينما يكبرون ويتخرجون من جامعاتهم ويتزوجون وينجبون" ولكني كَبُرت وتخرجت وتزوجت وأنجبت والشوق زاد وتأجج الحنين.

اشتقت لطيفك أبي.. حينما كان يسقط بصري على قريناتي في الروضة أو المدرسة وهن يداعبن شعرات علت وجه آباءهن وكيف يحيون في دلالهم، كنت أدرك أن خيراً كثيراً قد حُجب عني ولكني على عجالة أعود الى ما رسخته أمي في أعماق أفكارنا، لقاءٌ حتميٌ أبديٌ سيجمعنا. اشتقت لطيفك أبي.. كلما توجع قلبي من كلمة "يتيمة"، كانت تقتلني تلك الحروف التي تجمعت لقهري، ولكنني سرعان ما أرد إليهم كلماتهم بأنني "ابنة شهيد" فأنا المتيمة باسمك الذي يلحق اسمي والعاشقة لوصفك بأنك شهيد. اشتقت لطيفك أبي.. لقد أذن العيد على الأرض وصُنعت حلواه وأورق معايدته، وتكبيراته تجوب المكان، وما لبثت أن أبحث في ملابسي عن أي الألوان تحب أبي، وأتى الأعمام والأخوال والأحبة والجيران لمعايداتنا، وأخذت أرقب مجيئك يا تمثال الأرض يا أيقونة الفرح ولكنك لم تأتي، ليأخذني الخيال كل مرة كيف سيكون عيدنا لو كنت بيننا.

اشتقت لطيفك أبي.. كلما أثقلنا على أمي بهمومنا وشكاوينا من شتى مفرداتنا ووهي تخفي نياط قلبها الذي ينفطر وأهمس في داخلي يا ليتك بجوارها لتشاركها همنا. اشتقت لطيفك أبي يوم أن نقلنا سكننا إلى بيت جديد أول توجهات أمي لنا "احملوا صور أبوكم بلطف، غطوها بلطف" بكيت وبكيت لحنانيك أبي ولبكاء فؤاد أمي ولذاك الجمر الذي يكويه، ولكن هديرها هزني بقوة "اقرئي الإخلاص ثلاث مرات ليُبنى قصر لنا في الجنة وليقدر لنا القدر بالفوز بمؤانسته في دار القرار.  اشتقت لطيفك أبي.. كلما رأيت مشهد وداع شهيد وما أكثر شهداءنا، دعوت لهم بأن يقوي الله قلوبهم لتجابه غصة الوداع وليطفئ بلطفه نيران فراقهم لأيقونة فرحهم.

اشتقت لطيفك أبي.. حينما صعدت منصة احتفال تخرجي لأتلو كلمة الخرجين، وحينما أرسلت تحية الطلبة لآبائهم، حشرجت العبارات في حلقي، ولكني عدت لأبوح بأمنياتي لروحك يا ليتنا اليوم تقاسمنا الفرحة معاً. اشتقت لطيفك أبي.. قد وُضع خاتم الخطبة في يدي وشرفت برجل عسى أن يروقك فقد أصبحت ملكاً له، كنت أتمنى أن تختاره لي بعناية لأكمل معه مشوار حياتي، ولأختال معك في يوم فرحي ويدي بيدك كما كل الفتيات، لتسلمني له أمنية وتوصيه كما كل الآباء بأني أمانتك لديه، ليحفظ ودي. اشتقت لطيفك أبي.. حينما رزقت بمولودي الأول والذي اسمتيه باسمك، حضنته بين خلجات فؤادي وأضلعي، تلمست به حنان الأب والابن وتمازجت حينها دموع فرحي بدموع طرحي. اشتقت لطيفك أبي وسأبقى أشتاق له، كثيرين هم من تمتموا لنا "تتضاءل حوائج الأبناء للآباء حينما يكبرون ويتخرجون من جامعاتهم ويتزوجون وينجبون"، ولكني كَبُرت وتخرجت وتزوجت وأنجبت والشوق زاد وتأجج الحنين. سلامٌ لروحك أبي، سلامٌ لروحك المدثرة بدعواتنا.. سلامٌ لروحك التي تُحلق فوقنا.. سلامٌ لروحك في عوالم الخالدين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.