شعار قسم مدونات

ثورة ترفيه عربية

blogs حفلة

تشهد أقطار عربية ثورةَ ترفيهٍ كبرى، تفرض برنامجها الدؤوب بلا مناقشة. ومن تفاصيلها أنّ جزيرة العرب تستعدّ مثلاً لإقامة العديد من مدن الملاهي الكبرى، وعشرات المراكز الترفيهية، وثلاثمائة دار للسينما تضمّ ألفين وخمسمائة قاعة عرض، حتى حلول سنة 2030، بموجب استراتيجية الترفيه السعودية التي تشمل التوسّع في إقامة مهرجانات غنائية وفعاليات ترويحية من أنواع شتى، واستضافة آلاف الفعاليات الترفيهية سنوياً، وضخّ استثمارات بمليارات الدولارات في قطاع الترفيه، طبقاً لما هو مُعلَن رسمياً.

 

وسبقت دولة الإمارات عالمَها إلى استحداث "وزارة السعادة"، وتقدّمت الوزيرة إلى استلام منصبها بابتسامة عريضة وظهرت بسلسلة ذهبية حملت كلمة "هابي" وفاءً لاستحقاقات الدّوْر الذي أُسنِد إليها. ونحتت المغرب تجربتها في التوسّع في المهرجانات الغنائية الحاشدة التي لها ما يحاكيها في دول عربية أخرى مغرباً ومشرقاً، والحالة تتدحرج دون أن تعبأ بالانتقادات المتكاثرة والشكوك المتعاظمة في طريقها.

  

أظهر متحدِّثون عرب موصوفون بالاستنارة حماستهم لغَمْس الجماهير في طوفان الترفيه هذا، الذي قرّرته السلطات دون شعوبها. تحدّث القوم في مديح الحالة عن مزايا "الانفتاح ونبذ الانغلاق"، وراهنوا على مفعول النهج الترفيهي الجارف في "مكافحة التطرّف" في مجتمعات شابّة، دون أن يفحصوا سياق التوجُّه ومقاصده أو يُسائلوا مغزى إشغال الجماهير بالتسابق إلى صالات العرض والتزاحم حول منصّات الغناء والتدافع إلى مهرجانات التسوّق والانتظام في عروض الأزياء والتداعي إلى منافسات اللعب بالورق. لم يلتفت "المستنيرون" إلى أنه "انفتاح" لا يشمل إطلاق الأنفاس الحرّة والارتقاء بالوعي النبيه وتشجيع الحسّ النقدي وتمكين الأجيال من تشغيل عقولها وضمائرها بصفة مستقلّة عن برنامج الدعاية الرسمي الذي يُغرقها بخطابات ساذجة مكرّسة لتمجيد الواقع المُتراخي عن ركب العالم.

   

ليس الترفيه ترفيهاً وحسب، بل هو سبيل التأثيرات الموجّهة وحامل الشحنات القيمية، كما يُلحَظ في منصّات ووسائط لها توجّهاتها الملموسة في التغيير الاجتماعي والتحوير الثقافي وحتى حرب الأفكار الناعمة

لا مصارحة في هذه الاندفاعة بأنّ الترفيه لم يكن يوماً ترفيهاً وحسب؛ فهو لا يملك إلاّ أن يأتي مشحوناً برسائل مباشرة وإيحائية وبتأثيرات مكثّفة ومتضافرة، فيتفاعل وعيُ الجماهير معها وإن لم تكن مقصودة بذاتها. فالترفيه ليس شيئاً واحداً؛ في مشاربه التي عنها يُصدُر ورسائله التي يستصحبها ويبعث بها بصفة ثاقبة إلى الوعي الجماهيري. ومن نافلة القول أنّ الترفيه يدفع بأسواتٍ وقدوات بقوّة الإضاءة على نماذج مخصوصة، فتعلو النماذج المنتقاة بمجتمعاتها أو تهبط بها، أو ترقى بالذائقة الجمعية أو تهوي بها، بما يُشير إلى أنّ شعار الترفيه فضفاض بما يكفي لاستيعاب متناقضات جمّة في عباءته، وقد يأتي ذريعةً لتغليف بعض استراتيجيات التأثير الجماهيري وتلاعبات التغيير المجتمعي، وبعض جولات حروب الأفكار أيضاً.

    

ليس ترفيها وحسب

من السذاجة اعتبار الترفيه شأناً خالياً من القيَم ومعزولاً عن المؤثِّرات. إنّ ما تبدو للعيان فقراتٍ ترفيهية خالصة في المنصّات أو الشاشات هي الوسيط الأمثل لتمرير قيم معيّنة واتجاهات مخصوصة وتحميل رسائل مقصودة لذاتها، قد لا يتنبّه لها وعي الجمهور فيتجرّعها بلا تردّد. وإنْ طلَب الجمهور الترفيه؛ فإنه يحصل على وجبات محشوّة برسائل وقيم غير ملحوظة، وتتسلّل المؤثِّرات المتضافرة إلى وعيه دون أن يدرك سلطانها عليه، وقد لا يَعي بعض الفاعلين الإعلاميين المباشرين في المستوى التنفيذي أبعاد ما يقدِّمونه للجمهور وفق تقاليد الصنعة التي تقوم عند بعضهم على محاكاة النماذج والتطبيقات، لعجزهم عن سبر أغوارها واستيعاب تأثيراتها؛ لكنّ النظرة الفاحصة المختصّة قد تكشف عن مضامين غير مرئية للوهلة الأولى؛ وإن لم تكن مقصودة بذاتها.

 

يظلّ الترفيه أمضى تأثيراً في المجتمعات من مداخل شتى تخاطبها، فالتأثيرات التي تتخلّله تفعل فعلها في حالة استرخاء دفاعات الوعي في لحظة التلقِّي، بما يجعل الترفيه وسيطاً مثالياً لتمرير الرسائل الكامنة على افتراقها وتعارُضها، وتكشف النظرة الفاحصة عن تأثيرات ناعمة تتدافع إلى وعي الجمهور بدءاً من إعلانات الفواصل بين برامج الشاشات فما فوقها.

 

ليس الترفيه ترفيهاً وحسب، بل هو سبيل التأثيرات الموجّهة وحامل الشحنات القيمية، كما يُلحَظ في منصّات ووسائط لها توجّهاتها الملموسة في التغيير الاجتماعي والتحوير الثقافي وحتى حرب الأفكار الناعمة.

 

وقد يُستدعَى فرسانُ الترفيه المشاهير لتمرير رسائل محسوبة إلى الجمهور تمّ تجهيزها لهم على عيْن، وبعضها وخيم العاقبة على مجتمعاتهم. ولا يملك بعض المشاهير في مواجهة التعليمات التي تهبط عليهم سوى القول: "حاضر يا فندم!"، كما سُمِع في تسجيلات شهيرة سُرِّبت إلى وسائل الإعلام عن بعض ما يدور خلف الستار بين ضباط المخابرات ومشاهير الشاشات والمنصّات الترفيهية الذين ينتظم بعضهم في طابور سادس لخدمة الاستبداد.

 

ثقافة البهجة والاستبشار

قد يستبطن إظهارُ البهجة تعبيراً عن الرضا بالواقع أو التصالح معه، بما يجعل الارتياحَ الماثلَ للعيان خياراً تنشده السلطة المستبدّة لإظهار جماهير شعبها في هيئة تحتفي بإنجازاتها وتعلن البهجة وتباشر التصفيق.

 

ليس الترفيه شاغلاً جانبياً في المجتمعات، فهو يجتذبها إليه ويقعد لاستمالتها كلّ مرصد، ويشغل أسماعها وأبصارها ويوثِّر بها بعمق

تتجلّى التعبيرات البصرية عن الحالة في مجهود دعائي يصوِّر المواطن في هيئة ودودة تشي بارتياحه في يومه وباستبشاره بغَدِه. كلّ شيء على ما يرام، إذن، أو سيصير كذلك، حسب توجيهات "القيادة الرشيدة" التي تسهر على صالح البلاد والعباد. ويُعَدّ الإعرابُ عن الانزعاج، في هذا السياق، تشكيكاً مقصوداً في "الإنجازات" المتلاحقة، وقد يُرمَى المتذمِّرون من الواقع أو القَلقِون من الآتي بحمل "أفكار هدّامة" أو العمل ضد "المصلحة الوطنية" أو "الارتباط بأجندة خارجية مشبوهة".

 

يدفع المجهود الدعائي بأعمال بهيجة تمنح الشعوب وعياً مُلفّقاً بواقع مُتخيّل؛ يفترق عن الواقع القائم على الأرض. يجسِّد العمل الغنائي "بشرى خير"، الذي خرج إلى الجماهير في موسم الاستعلاء العسكري على النيل، نموذجاً مثالياً لخطاب تمجيد الواقع والتفاؤل المُفرِط بالمستقبل الآتي والطمأنينة بعودة الروح وصلاح الأحوال. يظهر في العمل شعبٌ راضٍ بواقعه وغارق في البهجة والأضواء الملوّنة، مع ابتسامات عريضة مرسومة على الوجوه المُنتقاة بعناية. يكتسب عملٌ كهذا، وله أشباه وفيرة، مغزاه السياسي من السياق الزمني الذي شهد الإطاحة بالديمقراطية بانقلاب عسكري. تحفل الفواصل التلفزيونية في المحطات الرسمية العربية بمثل هذه الإيحاءات، وفيها يُظهِرون الشعب بوجوه منتقاة في هيئة طيِّبة طيِّعة، ضاحكة مستبشرة، ومن الأفضل أن تكون الوجوه صامتة والألسن منعقدة؛ فالشعب النجيب لا يُناقِش أساساً ولا يعترض.

 

إعادة إنتاج الوعي

ليس الترفيه شاغلاً جانبياً في المجتمعات، فهو يجتذبها إليه ويقعد لاستمالتها كلّ مرصد، ويشغل أسماعها وأبصارها ويوثِّر بها بعمق، ويتضخّم محتواه باطِّراد في المنصّات والشاشات والشبكات حتى ثبّت مواقعه في برامج جادّة مثل بعض النشرات الإخبارية التي تتخيّر لختامها موادّ ممتعة من زحام الأخبار الخفيفة أو تنتقيها من فيض الشبكات والمقاطع. واتّسعت الظاهرة الشبكية وتطبيقات التواصل بالمحتوى الترفيهي أضعافاً مضاعفة، فصار الأفراد يصنعونه أيضاً ويباشرون بثّه وتدويره على نطاقات واسعة، ويشحنون بعضه بتعليقات ساخرة أو رسائل لاذعة.

 

وتسلّل المنحى الفكاهي إلى برامج يُفترَض أنها مخصصة للإرشاد الديني فصار بعضها مشبّعاً بالفكاهة وبالتعبيرات الساخرة في الإجابة على اتصالات الجمهور التي تطلب المشورة الدينية والفتوى الفقهية، غير بعيد عن المنحى الفكاهي في التعليق على الشؤون السياسية والعامّة والتطوّرات التي تشغل الجمهور في برامج مختصة بذلك.

 

ليست العلّة في الترفيه؛ بل في الإغراق فيه، وفي سوء استعماله لأغراض التضليل والهيمنة على الوعي ضمن مفاعلات التغيير الثقافي القسري، أو في توظيفه الدؤوب لصرف المجتمعات عن شواغل متروكة وتثبيت رسائل تخدم مراكز النفوذ السلطوي والمالي والثقافي. وليس خافياً أنّ بعضهم يُراهِن على استدعاء تدفّقات ترفيهية وثقافية نشطة من الخارج، الغربي أساساً، لاستعمالها في إعادة إنتاج المجتمعات، بعد قهر فرصها في التشكّل والانتظام في جهود وأعمال وتشكيلات تعبِّر عن حضور الشعب ويقظة المجتمع.

  

تُطلَب بعض مسالك الترفيهلإعادة إنتاج المجتمع وتطويع ثقافته وتكييف سلوكه، فتكون من هذا الوجه من متلازمات حرب الأفكار التي تشتدّ على جبهة العالم الإسلامي، وبعضها يجري تحت عناوين مضلِّلة مثل "مكافحة التطرّف" أو "تجديد الخطاب الديني" أو "إشاعة التسامح والاعتدال".

 

ومن معضلات الحالة أن تفتقر جهود البناء والإصلاح والترشيد إلى أدوات الثقافة الجماهيرية الحديثة، ومنها المخاطبة عبر الأعمال الترفيهية، وأن تنكشف المجتمعات على ضخّ ثقافي جماهيري جارف يتعارض مع مقتضيات الصلاح القيمي؛ بدءاً من مراحل الطفولة الأولى وصولاً إلى الأجيال اللاحقة. وما يبدو ماثلاً للعيان أنّ بعض جهود الإصلاح والترشيد أهملت مسألة الثقافة الجماهيرية ورموز المجتمعات ومخاطبة الشرائح والفئات مِن مداخل شتى يتقدّمها الفن والترفيه، وتهاونت في هذا الشأن عبر أجيال. حَسِب بعضهم واهِماً أنّ الرسالية الإصلاحية تقتضي معارضة الترفيه أو مفارقته إلى خطاب تعبوي أو تعليمي أو وعظي، بما أقعدهم عن تقديم المضامين البنّاءة ضمن قوالب وصيغ مُبدِعة في تمرير المحتوى القيمي والتوجيهي والإرشادي، ومنها القوالب الترفيهية أو المنحى الترفيهي ولو بشكل نسبي أو غير مباشر.

 

يطيب لبعض الحكّام أن يروا شعوباً راقصة خشية أن تعترضهم جماهير رافضة، فتلجأ بعض سلطاتهم إلى تحضير وصفة محبوكة للإلهاء الجماهيري تتذرّع بمقولات الانفتاح وتنوير الأجيال

لم يختمر الوعي الإصلاحي بأنّ القيم والمعاني تتطلّب تجسيداً وترميزاً يعبِّران عنها في دنيا الناس، وأنّ القيم المبثوثة في الكتب الإصلاحية والرسائل التوجيهية والدروس التربوية ونحوها يعوزها الذيوع الجماهيري المؤثِّر بقوالب وألوان ومعالجات شتى؛ بمعنى أنّها بحاجة إلى أن تبلغ مجتمعات وشرائح وفئات منشغلة باختيارات أخّاذة تغمرها من كل حدب وصوب.

 

ويعود جانب مِن المعضلة إلى غياب التكافؤ في هذا الحقل بين تحالفات السلطة والسوق من جانب وحاملي الرؤى الإصلاحية ضمن المجتمعات من جانب آخر، وكذلك بين الأطراف المنتسبة إلى الدوائر الحضارية في عالم يعيش اختلالات مزمنة؛ بما أفضى إلى عولمة نماذج محدّدة في الترفيه وهيمنتها على غيرها.

 

تتجلّى القيم الاستهلاكية، مثلاً، في رموز "ديزني" وعرائس "باربي"، وتبلغ ذروتها في استنساخ القوالب والنماذج والمضامين والتقاليد التي تصنع للمجتمعات رموزها المتجددة بمحاكاة برامج استعراضية وترفيهية أمريكية المنشأ مثلاً، تدفع بوجوه بازعة إلى وعي الأجيال تحت عناوين مُنتحَلة عن الأصل؛ من قبيل "أراب آيدول" وما لفّ لفّها.

 

وصفة إلهاء جماهيري

يطيب لبعض الحكّام أن يروا شعوباً راقصة خشية أن تعترضهم جماهير رافضة، فتلجأ بعض سلطاتهم إلى تحضير وصفة محبوكة للإلهاء الجماهيري تتذرّع بمقولات الانفتاح وتنوير الأجيال والانسجام مع "روح العصر".

 

كانت ميادين 25 يناير 2011 غاضبة ومتأججة بالإرادة الشعبية المصرية، فاصطنعت الثورةُ المضادةُ من بعدُ مشاهدَ ميدانية نقيضة تخلّلتها وصلاتٌ راقصة على الملأ بتوجيهات سلطوية، وانخرط رجال الأمن وعناصر الشرطة في بعضها، وشوهدوا على هذه الحال يوم 30 يونيو 2013 مثلاً.

  

واستدعى التوجّه إلى خنق أنفاس الانتفاضة الكامنة في فلسطين المحتلة إقامة مهرجانات غنائية كبرى في أرجاء الضفة الغربية بتسهيلات رسمية من سلطة مترهِّلة تسأم الانتفاضات، فجاءت ثقافة المهرجانات البهيجة تحت الاحتلال لتُزاحِم موجات الغضب الشبابي المُنتفِض. إنّ المفعول الإشكالي للترفيه الموجّه في هذا السياق قد لا ينعقد بذاته بصفة مجرّدة؛ بقدر ما يتأتّى بتأثير الإزاحة التي يُحدِثها في الاهتمامات الجماهيرية عن شواغل يُفترَض بها أن تتقدّم عليه، بما يعني أنه وصفة للإلهاء الجماهيري والتلاعب بترتيب أولويات الجمهور، علاوة على مفعول الترفيه في تبريد الغضب المحرِّض على الانتفاض والثورة أو الإصلاح والتغيير. أمّا الثورة ذاتها فلها أنماطها الفنية والترفيهية التي تّذكيها وتشيع ثقافتها وتيقظ الوعي وتحرِّض الجماهير على إسماع صوتها وتسجيل موقفها. ولا إصلاح دون استباق إلى رؤية الخلل بعيون مفتوحة وقلوب تحرّرت من أقفالها؛ بينما يراهن بعض الترفيه على استساغة الخلل والتصالح مع الواقع، ورؤية حقول الشوك بساتين زهر.

 

بلغت الحالة في تطبيقات عربية متعددة حدّ هيمنة المحتوى الأمني على بعض برامج التسلية والترفيه أو تسلّلها إليه بصفة جزئية وإيحائية تُتقِن فنّ التموضع، بما في ذلك الدراما الرمضانية المكثّفة، في تعبير عن نزعة شمولية تفرض سطوتها على الدراما والفنون ومحتوى الفضائيات. فمزايا الترفيه والتسلية ووصلات المشاهدة المفتوحة تُغري هذا النهج بالاستحواذ على وعي المجتمع وتضمين رسائل تخويف من الإقدام التفكير أو النقد، وإشارات ترهيب من حقّ التشكّل المجتمعي والانشغال بالقضايا العامّة، علاوة على تشويه أي بذور إصلاحية كامنة أو مقدِّمات وعي وإرهاصات تنوير.

 

يُراهِن الترفيه المنشود، وفق منطق السلطة الشمولية، على صرف الأنظار عن رؤية الواقع كي لا تفكِّر الجماهير بإصلاحه، وتعوِّل التسلية التي يرجوها نهج الاستبداد على استلاب الشعوب لتأثيرها في التخدير والإلهاء، كحال دُمية يُلقَى بها إلى طفل كي يكفّ عن إزعاج والديْه، وقد يباشر الطفل مخاطبة الدمية أو التماثل الوجداني معها كأنها حيّة في واقعه ويُنشئ واقعاً افتراضياً حولها معزّزاً بالشواهد الوهمية التي تصرفه عن الانشغال بالواقع الحقيقي.

 

سياسات الإمتاع والمؤانسة هذه ضالعة في التعمية على الواقع برشفة الوهم التي تمنح تقديرات مضلِّلة بشأنه وتوزِّع حبوباً مُنوِّمة لا تعين الجماهير على التهيّؤ الأمثل لغدٍ قادم

إنّ الترفيه في زمن المذابح والحرائق هو مسعى لتخدير الوعي الجماهيري بها من جانب وإشارة مروق من الحسّ الإنساني السويّ من جانب آخر بما يقتضيه من الإحساس وما يستدعيه من التصرّف. تبلغ أفلام الرعب ذروتها عندما يتفنّن أحدهم ببتر أصابع ضحيّته الحيّة واحداً تلو الآخر بدم بارد، دون أن يرمش للجاني جفن، ولا يكفّ عن إظهار حفاوته بما يفعل، فقد يُطلِق صفيراً هادئاً من شفتيْه، أو يواصل ارتشاف القهوة خلال مهمّة البتر والتقطيع، وقد يقرِّر تشغيل معزوفة كلاسيكية سيمفونية خلال إجهازه على الضحية لتزييف الفضاء الصوتي للواقعة. لا تعجز نزعات الترفيه، إذن، عن أن تستوعب ممارسات منزوعة الضمير أو مغموسة بالتوحَش، كما جاء في رواية إخبارية غير معترف بها، من أنّ أحدهم حثّ "رفاق المهمّة" على الاستماع إلى وصلات موسيقية وهو يهمّ بتقطيع جسد كاتب عربي بارز بمنشار غليظ.

 

سعادة في مواجهة الحرية

تَنشُد استراتيجيات الترفيه الصاعدة عربياً شعوباً تتلقّف بلا مناقشة، ومجتمعاتٍ تتلقّى بلا اعتراض. ولا تبدو التوجّهات المُعلَنة معنيّة باستثارة حسّ الجمهور النقدي إزاء ما تضخّه، أو تمليك المتابعين والمشاهدين فرص التعبير الحرّ عن آرائهم والإفصاح الآمِن عن قناعاتهم إزاء ما يستهدفهم من ضخّ عبر منصّات الترفيه وشاشاته وشبكاته. يجري التوسّع في الضخّ الترفيهي دون إشعار الجمهور بقدراته الذاتية على التقويم والمساءلة والمناقشة والأخذ والردّ على بصيرة؛ بما في ذلك الحقّ في الاعتراض على التوجّه المقرّر أو المضامين المعروضة بموجبه.

 

ليست بلدان العرب استثناء من تجارب عرفتها أقاليم أخرى في الماضي والحاضر، تحاشت السلطات فيها تراكُم مشاعر التذمّر التي تقدح نوْبات السّخط وتشحن إرادة التغيير. كان رقيب البلاط الملكي النمساوي البائد، مثلاً، يمعن في تحوير الألفاظ الواردة في الصحف والمنصّات الثقافية والفنية، فيزيح مفردة "الحرية" (فرايهايت) مثلاً ليضع "السعادة" (فروليشكايت) مكانها، مستفيداً من تقارب لفظيّ بينهما في الألمانية. وبلغ الأمر بجهاز الرقابة وقتها أن تدخّل في عروض أوبرا "دون جيوفاني" لموتسارت، التي جاء في خاتمتها: "عاشت الحرية، على الحرية أن تعيش"، فتم أداؤها على خشبة العرض بعبارة بديلة: "عاشت السعادة، على السعادة أن تعيش"!.

 

إنّ إشاعة السعادة والبهجة بمنظومات الترفيه هي عند الطغيان الاستبدادي زيادة في السطوة يمارسها على وعي الجماهير ليُمسِك بخطامها ويقودها إلى حيث يرغب، وهكذا يتغنّى بعض الترفيه بالوطن ويخذله في الواقع؛ لأنّ الوطن في السرديات الدعائية صُودر أساساً لصالح قائد جُعِل في وعي الجمهرة في مقام الوطن عيْنه.

 

فرار من الواقع

يُعين الإغراق في الترفيه وإشاعة البهجة في المنصّات وعلى الشاشات، على فرار المجتمعات العربية من واقعها، فتفعل جرعات التسلية فعلها التخديري الذي يكبح الإحساس بحقائق وتفاصيل مؤلمة كلّ نهار. تُعين وجباتُ النشوة وتصريف الحنق، الجماهيرَ على التملّص من مشاعر الألم ودواعي الاستدراك لتتقيّد بالانضباط في المسارات المرسومة لها في اليوم التالي.

   

تتعاظم صناعة إشاعة الارتياح باحتفاليّاتها المتواصلة وابتساماتها العريضة، حاملةً جماهير العرب إلى عوالم افتراضيّة صاخبة من الأضواء والألوان والمعزوفات، تشي بالبهجة الغامرة، وتبعث على تشبّث العرب بواقع متدهوِر يُخيّل إليهم من سحر الترفيه والدعاية أنه مجيد حقاً.

 

وكيف لا تستثمر الأنظمة المستبدّة في الترفيه بسخاء والإغراق فيه يُتيح تنفيسَ كبت شعوبها، وتسكين آلام مجتمعاتها، وتفريغ إحباطات حياتها اليومية؟ إنه الترفيه الذي يرسم بأضوائه وألوانه ومعزوفاته صورةً انطباعية مجيدة عن واقع مُزْرٍ، ويكسوه بمساحيق تجميلية مضلِّلة، بما يستدرج الجماهير إلى الرضا بواقع يُخيّل إليها من وهمها أنه مُزدَهِر ومتقدِّم.

 

إنّ سياسات الإمتاع والمؤانسة هذه ضالعة في التعمية على الواقع برشفة الوهم التي تمنح تقديرات مضلِّلة بشأنه وتوزِّع حبوباً مُنوِّمة لا تعين الجماهير على التهيّؤ الأمثل لغدٍ قادم. وتبقى صناعةُ الترفيه الاستهلاكي المدعومة رسمياً معملاً مثالياً لترسيخ وَعي زائف، منفصم العرى عن الواقع، وقد تُذكي اهتماماتٍ وتصوّراتٍ لا مصلحة فيها للشعوب؛ حتى وإن تخلّل الاحتفالياتِ البهيجة رفعُ الرايات والغناء المتواصل لوطن لم يُستأذَن في هذا كلِّه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.