شعار قسم مدونات

كيف تسرد سراييفو تاريخها؟

blogs تاريخ سراييفو

تسهل سراييفو على القادم من خارجها، التعرف إلى تاريخها، بدون إلزامه حتى، بالعودة الى الكتب، أو معاينة الاشرطة الوثائقية.

قال لي صديق دبلوماسي يقيم هناك منذ أربع سنوات، إنه استغرب وجود السيارة التي أقلت ولي عهد النمسا، يوم مقتله أمام المتحف الذي أنشأ قرب مكان إطلاق النار الاول عليه، قبل الاجهاز عليه لاحقا مع زوجته عام ١٩١٤. فهو- أي صديقي- يمر يوميا من هناك، ولا يشاهد السيارة، لكنه فوجئ بصورتها منشورة على صفحتي على فيسبوك.

دعتني دهشة الدبلوماسي للاستنتاج، أن إعادة عرض السيارة في اليوم الذي تصادف مع ذكرى واقعة الاغتيال التي اشعلت الحزب العالمية الأولى، أريد منه التغلب على تحول المتحف بنظر جيرانه إلى معلم عديم التميز، وعاجز عن فتح الشهية للمعرفة والتذكر. لم لا يتغير المنظر الذي ألفه جيران المتحف؟، فيكونون بدورهم ضمن الزائرين الذين قد يجمعهم بالسياح، حب الاستطلاع.

 
علىً خلاف هذا التدخل المطلوب ربما، لتنشيط الجاذبية والترويج، احتفظت سراييفو القديمة بجاذبيتها للسياح، لأن المسجد الذي ما زالت تقام فيه صلاة العيد إلى اليوم، والمباني المجاورة له، ما زالت محتفظة بنكهتها العثمانية الخالصة. حتى في اسطنبول، لم يعد بالإمكان معاينة الزمن العثماني مجتمعا في مكان واحد، يمكنك استشعاره، من مجرد جولة مدتها، أقل من ساعة على الأرجل.

  

undefined

   

في المنطقة ذاتها ثمة مقاه تقدم القهوة البوسنية الشبيهة بنظيرتها التركية، لناحية النكهة وطريقة الإعداد. وثمة بيوت بطراز معماري يعود الى نهاية القرن التاسع عشر: طابق واحد بشبابيك عالية ومتعددة وسقف قرميدي، تطل مباشرة على الطريق. وثمة باب ضخم مفتوح على الشارع الذي يمر فيه الترامواي مباشرة. لكن الباب والشبابيك، يعلوها غبار وقذارات أخرى، تراكمت على مدى عقود، إضافة إلى تكسر أطراف الزجاج بفعل التقادم. لا وجود للمسة بشرية تدل على أن أحدا أدار مفتاحا فيها خلال عشرين عاما على الأقل. وهو مشهد يحيلك إلى صنف البيوت أو المحلات التجارية الواقعة في وسط تجاري ينبض بالحياة، لكنه أقرب الى جثة مهملة وملقاة وسط زحمة سير، لأن أبوابه تبقى مغلقة في كل المواسم. مشهد يتكرر في مدن عريقة أخرى كدمشق وبيروت، لعقارات غاب ورثتها أو هاجروا إلى قارة أخرى، وماتوا هناك بلا وريث، أو راع لأملاك الوارث الغائب.

لمسة سراييفو في سرد تاريخها بدون تدخل أو ثرثرة، تظهر في طريقة عرضها لتاريخها القريب أي: إلى حرب صرب الداخل والجوار عليها في أعوام  ١٩٩٢-١٩٩٥. فهنالك مبنى مقابل لأكبر مجمع تجاري في المدينة، ما زالت آثار الرصاص واضحة على جدرانه الخارجية. وإذا افترضنا أن ذلك قد يكون حاصلا نتيجة لإهمال ما، أو انعدام المال، فلن يقال الشيء ذاته على واقعة تعتبر من العلامات الفارقة لتلك الحرب. 

هي مجزرة سوق "مارقلعة" التي نجمت عن سقوط قذيفة على سوق خضار في سراييفو القديمة في 28 أغسطس/آب1995، مما أدى الى مقتل 43 شخصا. بعد انتهاء الحرب أدانت محكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة الصربي دراغومير ميلوسوفيتش بالمسؤولية عن المجزرة وحكمت بسجنه29 عاما؛ لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة في سنوات الحرب ذاتها بالنظر لصعوبة تحديد مصدر القذيفة: هل أتت من التلال التي تسور المدينة ويسيطر عليها الصرب، أم من طرف عسكريين بوشناق يائسين أرادوا إراقة دماء بريئة لبني جلدتهم، للفت نظر المجتمع الدولي الذي كان قد استكان، وبدء يتعامل مع قضيتهم بمثل تعامله مع الأمراض المزمنة: مسكنات للألم، ولا علاج أو جراحة تنقذ الأم ووليدها.

ما فعله البوسنيون لإحياء ذكرى قتلى سوق مارقلعة الأبرياء، كان بسيطا ومؤثرا. في كل بقعة سقط فيها قتيل داخل السوق، أو في محيطه حوفظ على موقع سقوط القذيفة، وهو حيز صغير من عدة سنتيمترات بحجم الأثر الذي تتركه على الأسفلت قذائف الهاون من العيارات الخفيفة والمتوسطة، ويعرفه جيدا الذين مرت الحروب الأهلية على بلادهم. اللمسة البوسنية كانت بتلوين تلك الحفرة وآثار الشظايا الملحقة بها، بصبغها بلون أحمر قان، يذكرك بلون الدم، ويحيلك مباشرة إلى الشعور الخاطف بالخوف، لأن ثمة رجل أو سيدة من لحم ودم، مات ذات يوم هنا في هذا المكان. ليس مهما ان نعرفه تاريخ ميلاد القتيل، ولا اسمه ولا عمره. المهم هو الشعور بجلال الموت ورهبته، وذكراه المحفورة أمامنا، على الأسفلت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.