شعار قسم مدونات

استقلال الدول العربية وسيادتها.. هل هي مجرد كذبة كبيرة أخرى؟

blogs الاستعمار السوفيتي

إبان الحرب الباردة كانت منظومة دول حلف وارسو عموما خاضعة لهيمنة الاتحاد السوفياتي سياسيا وعسكريا وأمنيا واقتصاديا، ولحق بها حكومة أفغانستان ما بعد مرحلة الملك ظاهر شاه، وغيرها من الدول، ربما بعض الدول الشيوعية حظيت ببعض الاستقلالية النسبية عن السوفييت مثل كوبا بزعامة فيدل كاسترو، ولكن لو نظرنا إلى تلك الحقبة نحو دول أوروبا الشرقية لوجدنا أنها تدار فعليا من قبل ضباط من المخابرات السوفياتية (كي جي بي) مع أن تلك الدول والتي تحمل اسم (جمهوريات) لها تمثيل في الأمم المتحدة ومؤسساتها، ولها أعلام ورجال دولة من رؤساء ووزراء وقادة جيوش، ولها وعندها سفارات، ولديها محطات راديو وتلفزيون وصحف بل بعضها لديه تصنيع عسكري يصدر منه إلى الخارج مثل تشيكوسلوفاكيا مثلا.

 

ولكن ضباط الكي جي بي المفرزين من موسكو هم من كانوا عمليا يتحكمون بكل شاردة وواردة في تلك الدول أو الجمهوريات.. أي أن ما يسمى بأجهزة الدولة في ألمانيا الشرقية أو هنغاريا أو بلغاريا مثلا بما فيها من موظفين من رئيس أو رئيس وزراء أو وزير وصولا إلى أصغر موظف كانوا مجرد ديكور أو واجهة للحاكم الفعلي الذي هو ضابط برتبة كبيرة أو صغيرة (حسب الوضع) في الكي جي بي، وهذا يعود إلى طبيعة المنظومة السوفياتية الشمولية التي كانت تعتمد على الأمن والجيش لضبط مجريات الأمور وما تبقى من وسائل يعتبر هامشيا أو خاضعا تماما لرؤية الضباط الذين بالطبع لم يكونوا يظهرون في الواجهة، أي كانت العلاقة تبعية وإن بدت تحالفية.

 

في المقابل فإن الأمريكان كانوا لا يقتصرون في وسائل هيمنتهم على مجموعة من ضباط وكالة الاستخبارات (السي آي إيه) مع أهمية دور هؤلاء، فقد استخدم الأمريكان هوليود والهامبرجر والمالبورو والشركات العملاقة وصولا إلى الوسيلة التي أحدثكم من خلالها أي تقنية الاتصالات والإنترنت، جنبا إلى جنب مع عمليات الاستخبارات السرية، والعمليات العسكرية الواسعة أو المحدودة.

 

كانت مصر زمن عبد الناصر محسوبة على السوفيات (مع أنها من مؤسسي حركة عدم الانحياز) ثم صارت محسوبة على الأمريكان منذ بداية عهد السادات تقريبا، وكانت ليبيا والجزائر وسورية والعراق تصنف بأنها دول تدور في فلك موسكو

إجمالا يمكن أن نقول أن إدارة الأمريكان للأمور في ألمانيا الغربية، بالتأكيد مختلفة تماما عن إدارة السوفيات في الشرقية من شتى النواحي، نظرا لطبيعة الرأسمالية متعددة الأذرع ووسائل السيطرة والتحكم، واكتفاء الأمريكان بالتحكم بالسياسة العامة وتوجيه دفة الاقتصاد بما لا يؤثر على شركاتهم وتجارتهم، وتطبيق سياسة التغلغل أو التوجيه الناعم بوسائلهم الثقافية المختلفة، وضغوطاتهم عبر أذرع صارت تحمل مسميات دولية لا أمريكية بحتة. ولكن ماذا عن منظومة الدول العربية (المستقلة) وهي كيانات ووحدات سياسية نشأت عن الاستعمار الأوروبي الذي انتهز فرصة ضعف السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر ليحتل بعضها، وأكمل احتلال الباقي بعد تفكك السلطنة مع نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)؟

 

فقد نشأت بعد الاستعمار، الذي قاومه أهل المناطق العربية المحتلة عموما بشراسة واستبسال، كيانات سياسية معترف بها دوليا، حملت أسماء الممالك أو الجمهوريات أو غيرها تدريجيا، بحيث أنه مع نهاية النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين لم يبق مما عرفته كتب الجغرافيا والتاريخ التي درسناها في المدارس بـ(الوطن العربي الكبير) الممتد من المحيط الأطلسي غربا إلى الخليج شرقا، بقعة أرض إلا وهي تابعة لإحدى هذه الكيانات ومؤسساتها الناشئة.

 

وقد أثرت تداعيات الحرب الباردة على تلك الكيانات بطبيعة الحال، ولكن تقريبا لم يحدث أي انهيار سياسي يذكر فيها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وانهيار جدار برلين، وقيام منظومة سياسية جديدة في شرق أوروبا، وأزمة البلقان الدامية الناجمة عن تفكك يوغسلافيا.. ربما الاستثناء هو جنوب اليمن، وذلك بعد سنوات من إعلان الأمريكان أنفسهم قطبا دوليا واحدا، وقبول العالم طوعا أو كرها بهذا الإعلان. ألم تكن الكيانات العربية خاضعة للتقسيم المعروف بين القطبين، بحيث يقال هذه الدولة العربية محسوبة على واشنطن وتلك محسوبة على موسكو؟ بلى، وبوضوح أكثر كانت مصر زمن عبد الناصر محسوبة على السوفيات (مع أنها من مؤسسي حركة عدم الانحياز) ثم صارت محسوبة على الأمريكان منذ بداية عهد السادات تقريبا، وكانت ليبيا والجزائر وسورية والعراق تصنف بأنها دول تدور في فلك موسكو.

 

في المقابل كانت تونس وكل الأنظمة الملكية محسوبة على واشنطن…كان هذا يقاس إجمالا بمصدر التسليح والنظم الاقتصادية المعمول بها، أو فكرة الاشتراكية أو حكم الحزب الواحد وما يضادها، والمواقف السياسية والإعلامية، وقد انتشرت عربيا مصطلحات مثل التقدمية والرجعية؛ حيث أن الأولى تعني تلك الدول التي تعتبر صديقة للسوفيات والثانية لتلك التي كانت صديقة للأمريكان…مع اختلاف مفهوم الصداقة في عالم السياسة والاقتصاد حسب الظرف الموضوعي. هذا مع كون الدول العربية ضمن حركة عدم الانحياز، والتي كان عبد الناصر من مؤسسيها الأوائل (مع الزعيم اليوغسلافي تيتو والهندي نهرو) ووجود سفارات للقطبين السوفياتي والأمريكي في العواصم العربية، مع بعض الاستثناءات.

 

وربما كانت السعودية حالة عربية فريدة فقد اعترف بها الاتحاد السوفياتي مع بداية تأسيسها تقريبا (1926م) في وقت كانت فيه الأقطار العربية الأخرى تحت نير الاستعمار الأوروبي، ولكن تلك العلاقات بين الرياض وموسكو انقطعت بعد عقد ونيف من الزمن لتعود في زمن أواخر شيخوخة الاتحاد السوفياتي (1990م) وفي فترة الانقطاع تكونت علاقات حميمة بين الرياض وواشنطن.

 

صدام حسين الذي كان جيشه محسوبا على المدرسة العسكرية السوفياتية، تحالف سرّا وعلنا مع الأمريكان ضد إيران التي خاض ضدها حربا طاحنة، ثم تطورت الأمور باحتلاله الكويت وتخلي السوفييت بزعامة غورباتشوف عنه
صدام حسين الذي كان جيشه محسوبا على المدرسة العسكرية السوفياتية، تحالف سرّا وعلنا مع الأمريكان ضد إيران التي خاض ضدها حربا طاحنة، ثم تطورت الأمور باحتلاله الكويت وتخلي السوفييت بزعامة غورباتشوف عنه
 

وظلت الدول العربية النفطية الخليجية ومصر في حالة استقرار سياسي بالمجمل موسوما بعلاقات دافئة ومتطورة مع واشنطن سياسيا وعسكريا واقتصاديا، ولم تتأثر منظومة هذه الدول بالقيم الأمريكية المعلنة أو المعمول بها في بلاد العم سام القائمة على تداول السلطة والتعددية السياسية وحرية الأفراد وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والإعلام وغير ذلك، اللهم إلا في بعض الشكليات التي اجتاحت معظم أرجاء الدول العالمثالثية في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

 

ولكن في المنطقة العربية كانت هناك حالة غريبة عن نظيرتها في مناطق أخرى من العالم فمثلا صدام حسين الذي كان جيشه محسوبا على المدرسة العسكرية السوفياتية، تحالف سرّا وعلنا مع الأمريكان ضد إيران التي خاض ضدها حربا طاحنة، ثم تطورت الأمور باحتلاله الكويت وتخلي السوفييت بزعامة غورباتشوف عنه، ودخول سورية التي كانت من الدول الصديقة للسوفييت في الحلف الذي أنشئ بزعامة الأمريكي جورج بوش الأب لإخراج صدام من الكويت!

 

ولم يكن حال معمر القذافي الذي حرص خلال عقود على الظهور بمظهر الثوري الاشتراكي المعادي للإمبريالية الأمريكية، ولوح عند قصف مقره في ثمانينيات القرن الماضي بإقامة بؤرة سوفياتية في ليبيا مختلفا، بعقده صفقة مع الغرب، أفضت إلى رفع الحصار عن ليبيا، وقبول الأمريكان به دون أي تغيير داخلي يذكر في الدولة الكبيرة الغنية بالنفط، لدرجة زيارة كونداليزا رايس قبل عشر سنين إلى ليبيا وجلوسها معه.. وهذه من السوريالية السياسية التي تفنن بها الأمريكان.

 

هناك من يعزو الأمر إلى براغماتية الزعماء العرب، الذين يحكمون بلادهم بطريقة أوتوقراطية (فردية) وقدرتهم على التشكل والتغير وفق الأوضاع الدولية المختلفة، وعقد الصفقات مع الطرف الأقوى دوليا، وتقديم التنازلات له، وهذه براغماتية تتقاطع مع نفاق وجشع الأمريكان الذين تهمهم مصالحهم الاقتصادية وضمان تدفق النفط وأمن إسرائيل، وليكن دون ذلك صديقهم وحليفهم أي نظام. ولكن هذا التفسير، يبدو ضعيفا مع التطورات التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، فهل الأنظمة العربية فعلا مستقلة كي نقبل هذا التفسير؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.