شعار قسم مدونات

قبل وبعد "الفيسبوك".. ماذا تغيّر في حياتنا؟

blogs فيسبوك

لقد أضحى "الفيسبوك" عبارة عن مجتمع متكامل البناء، فيه الحكومة التي تسهر على تطبيق القانون والحرص على النظام العام المتمثلة في "مسيري الموقع" الذين يبلغ عددهم المئات، والأفراد الذين يشكلّون المجتمع، وأعدادهم التي تصل إلى مئات الملايين، فكيف أثّر هذا الموقع على حياتنا وتفكيرنا ونمط معيشتنا وماذا غيّر فينا مع مرور الوقت؟.. نحاول تسليط الضوء على هذه النقاط في هذا المقال.

"الفيسبوك" الذي تم إنشائه قبل حوالي 14 سنة ولم يصل إلى العالم العربي بشكل جليّ الا بعد ظهوره بالولايات المتحدة بثلاث سنوات، بالتحديد سنة 2007، وقد كنا قبل تلك الفترة من ظهور "الموقع الأزرق"، نتجول على الانترنت ونزور مواقع متنوعة لم تكن كثيرة مثلما هو عليه الحال اليوم، فنقرأ ونتعلم أمورا جديدة، فاذا ما أردنا اللهو واللعب توجهنا لمواقع الألعاب أو مواقع الدردشة الفورية "الشات"، فنجلس بها لعدة ساعات نتكلم فيها من خلال الكتابة مع مستخدمين آخرين من كافة أنحاء المعمورة، وبالإضافة إلى مواقع الدردشة كان للمنتديات حيّز مهم في تشكيل الجو العام السائد آنذاك، مع اختلاف توجهات تلك المنتديات وإيديولوجياتها، فمنها الإسلامية والتربوية والتعليمية والنسائية والخاصة بالرياضة وغيرها، فكنا نستفيد منها حقّ الاستفادة، كانت تساعدنا في القيام بواجباتنا المنزلية والبحوث العلمية وفي طرح الأسئلة في مختلف المجالات، بينما اليوم تلك المنتديات التي أمضينا فيها أجمل الأوقات بدأت في الأُفول، وأصابها الهرم واقتربت من الاندثار من عالم "الويب" بدون رجعة.

وعند ظهور "الفيسبوك" كان الكثيرون متخوفين منه ومرتابين بادئ الأمر، لأنه شيء جديد لم يعهدوه من قبل، ودائما النفوس تتقبل الشيء الجديد بصعوبة وبمرارة، حتى مع مرور الوقت تتعود على الجديد، فتفرّط في القديم وتتركه جملة واحدة، فكانت الإعلانات المزعجة التي تروّج لموقع "فيسبوك" تظهر في كل مكان، وكان أغلب الزوار يتفادونها ولا يأبهون لها، إلى أن حلّت سنة 2011 حتى 2013 فتغيّرت الكثير من الأمور.. لقد ارتفع عدد المستخدمين للموقع برقم جنوني خاصة في الدول العربية ولا نعرف السبب الرئيس وراء ذلك الارتفاع المفاجئ، ربما يعود لأسباب اجتماعية حدثت في ذلك الحين، فأصبح الجميع يمتلكون حسابا على "الفيسبوك"، وأمسى حديث العامة، وبخاصة منهم الشباب، فبعد أشهر من تلك السنة أصبح كل من لا يمتلك حسابا أزرقا فهو من الطراز القديم، ويشبهونه بالعجائز والشيوخ لأنه لا يواكب متطلبات العصر الآنية حسبهم.

"الفيسبوك" دوامة ابتلعت الكثير من قيمنا الدينية والاجتماعية، وسلبتنا أعز ما نملك وهو الوقت الذي هو عصب الحياة وأساس النجاح

وكانت الصفحات الإخبارية والترفيهية و"الغبية" تزيد يوما بعد يوم، ومن حين لآخر كانت تظهر حالات غريبة تنتشر انتشار النار في الهشيم، مثلما كانت تقوم به الصفحات آنذاك، التي تضع صورة فيها شيطان بشع المظهر أحمر الرأس، يخرج منه قرنان عظيمان، ومكتوب بداخل الصورة "ان لم تكتب الله أكبر عشر مرات فإن الشيطان قد منعك"، أو صورة أخرى لحيوان نصفه حصان ونصفه الآخر سمكة قرش، أو أخرى لنصف عصفور برأس خنزير ومكتوب داخل الصورتين "اكتب سبحان الله إذا رأيت هذا الحيوان لأول مرة"، ومن المحزن المضحك أنّ الآلاف من الناس يكتبون تلك العبارات وبعضهم يكررها فوق العشر مرات، لعله يعتقد أنه يكسب أجرا ويغيض الشيطان بفعله هذا، بينما الشيطان جالس يقهقه على عملية الاستحمار التي تعرّض لها للتو، والتي هدفها الأول زيادة التفاعل وعدد الإعجابات لتلك الصفحات التي نشرت الصور.

عند تكرر مثل هذه الأمور قرّر كثير من المستخدمين ترك "الفيسبوك"، بسبب ثقافة الاستغباء التي عمّت مع انتشار التفاهة والرداءة، فانتقل كثير منهم إلى موقع آخر يقال أنه مخصص للطبقة المثقفة "تويتر"، ولكن سرعان ما عاد جلّ الناس إلى "الفيسبوك" لأنهم لم يتأقلموا، أو بالأحرى لم يفهموا كيفية التعامل مع الموقع الثاني. فأصبح واضحا أنّ هذا الموقع يعيش حالة من الفوضى والعبثية والرداءة المفرطة، وكأنه نسخة طبق الأصل عن الواقع الذي نعيش فيه.

ومن المتغيّرات التي تحدث لعقولنا وأحاسيسنا أثناء غوصنا في هذا الموقع، أننا نتعرض لكم هائل من المشاعر والانفعالات، فتارة نضحك وبعدها مباشرة نغضب، ثم نحزن ونرجع مرة أخرى لنضحك، حتى يخال اليك وأنت تنظر لمن يتصفح ذلك الموقع أن به جنّة أو مس، والمثير للانتباه أيضا أن أغلب المنشورات لا تعبّر حقيقة عن ناشرها، ولكنها تعبر عن الحالة التي يتمناها ويرغب أن يكون عليها، فيظهر للناس شخصيته التي افتقدها في الحياة الطبيعية، فيحاول جاهدا اظهارها للعيان بكل الطرق الممكنة على أنها كاملة وجذابة وشجاعة، لأنه عالم افتراضي مسموح فيه للجميع بأن يكونوا أبطالا خارقين.

ويمكننا القول أنّ إدارة "الفيسبوك" تعرف جيدا كيفية الاحتفاظ بزوارها، من خلال تحديثات دورية واضافة عناصر جديدة تسهل من طرق التواصل بين المستخدمين، وتساعدهم في التعبير عن مكنوناتهم بأيسر الوسائل الممكنة، والعرب أخذوا بنصيب واسع من تلك التحديثات فتجدهم يفرحون أشد الفرح لتنصيب اصدار جديد، فيصبح ذلك التحديث موجة لا يتخلف أحد عن ركوبها، وبشكل عام فانّ "الموقع الأزرق" قد خفف عن كاهل الدول عبئا ضخما، ملئه التخلف والتفاهة والبطالة و"البحث عن حبيبة"، فأصبح الواحد من الناس يدخل إلى الموقع فينسى همومه التي أرّقته ويلتقي بمحبوبته الافتراضية، ويعيش معها أحلاما وردية غالبا تنتهي بانقطاع التيار الكهربائي بسبب سوء التسيير من الشركة المكلفة به، فيعود مرة أخرى للحياة العادية ليصدمه الواقع، فتتملكه الحسرة ويشعر بالوهن، حتى إذا عاد التيار من جديد، أكمل حلمه ونسي محاسبة من قطع عنه التيار الكهربائي، الذي هو أيضا كان يخاطب فتاة أحلامه الافتراضية.

سهّل الفيسبوك كثيرا من عملية التواصل وقرّب المسافات، ومكننا من الاتصال بالشركات العالمية والمحلية لنعرض عليها أعمالنا أو نطلب مساعدتها، وكل هذا بكبسة زر
سهّل الفيسبوك كثيرا من عملية التواصل وقرّب المسافات، ومكننا من الاتصال بالشركات العالمية والمحلية لنعرض عليها أعمالنا أو نطلب مساعدتها، وكل هذا بكبسة زر
 

وببساطة فإن "الفيسبوك" دوامة ابتلعت الكثير من قيمنا الدينية والاجتماعية، وسلبتنا أعز ما نملك وهو الوقت الذي هو عصب الحياة وأساس النجاح، وجعلنا "الفيسبوك" نعيش في عالم من الخيال والعبثية التي لا تعود علينا بفائدة علمية أو ثقافية إلا في أحايين نادرة، وأصبح من اللازم استحداث نظام معيّن لتسيير الكم الهائل من المستخدمين والتحكم في الظواهر الطارئة من حين لآخر حتى يؤدي هذا الموقع عمله الذي أسس من أجله، وهو التواصل بين الأفراد وبين الشعوب باختلاف أديانها وأعراقها.

ولكي لا نظلم "الفيسبوك"، فحقيقة هو قد سهّل كثيرا من عملية التواصل وقرّب المسافات، ومكننا من الاتصال بالشركات العالمية والمحلية لنعرض عليها أعمالنا أو نطلب مساعدتها، وكل هذا بكبسة زر، وفتح لنا الأبواب على مصراعيها لفرض ذواتنا وإيصال أصواتنا للناس الذين لا نعرفهم من كافة أنحاء العالم، وتعرفنا فيه على أناس صاروا من أحب الخلق إلى قلوبنا، وخلاصة القول، أنه علينا أن نسعى جاهدين لاستخدام هذا الموقع للأغراض التي أُنشأ لها في الأساس، والابتعاد عن محاولة جعله عالما منفردا نعيش داخله، فنكوّن جدارا إسمنتيا بيننا وبين الواقع المُعاش ونحن لا ندري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.