شعار قسم مدونات

ترامب وخاشقجي.. القيم أم الأموال؟

blogs ترمب و بن سلمان

من أبجديات السياسة في العلاقات الدولية أن الدول تسعى في النهاية لتحقيق مصالحها، هذه حقيقة. وإذا وضعنا في الاعتبار هذه القاعدة نجد أن منذ صعود ترامب ظللنا نسمع كل يوم أن الرجل دائم الحديث عن كيفية إعادة الأمجاد "المفقودة" للولايات المتحدة الأمريكية، وقد استخدم الرجل شعارات شعبوية يمينية على غرار "أمريكا أولاً" وقد كرر تلك العبارة في مناسبات عديدة أثناء حملته الانتخابية أو في يوم تنصيبه قبل عدة أشهر. والشاهد للعيان أن الخطابات التي استخدمها ترامب إبان حملته الانتخابية -بالإضافة إلى خطابات أخرى- كانت مليئة بالوعود الاقتصادية والتجارية، وقد شكّلت تلك الخطابات أهم أسباب صعود ترامب فيما بعد، لذلك اتضح أن ترامب في محاولته لتحقيق وعوده الانتخابية كان وما يزال يدهس كل عائق أمامه. ولكن ماذا لو كان العائق هذه المرة هي قيم ومبادئ الولايات المتحدة؟ 

لعبة التحالفات:

في سبيل تحقيق برنامجه التجاري/الاقتصادي، قام ترامب بإعادة ترتيب التحالفات في المنطقة بعد أن حطّم كل ما بناه الرئيس الأسبق باراك أوباما. لا شك أن ترامب كان يدرك بإحساسه التجاري أن عليه أن يتقرب أكثر من منبع المليارات، لذلك أهم ما قام به هو بناء علاقة قوية وصلت لأن تكون علاقة شخصية مع محمد ابن سلمان ولى العهد السعودي وكذلك مع الأسرة المالكة في السعودية، وأهم من ذلك هو أن ولي العهد وهو الحاكم الفعلي للمملكة الآن أصبح ينفذ سياساته بناءً على رؤية "أسرة ترامب" في البيت الأبيض. وأكبر إنجاز حققه ترامب هو صفقة بمليارات الدولارات مع السعودية في المشهد الشهير الذي انتشر في وسائل الإعلام عندما كان ترامب يعد كمية الدولارات التي سوف يدفعها بن سلمان الذي كان جالساً بالقرب منه وهو يبتسم.


المبادئ الأمريكية:

أمريكا دائما ما تظهر للعالم على أنها المدافع الأول عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، والحريات السياسية والديمقراطية، وكل الأحداث، والملاعب التي تتحرك فيها الولايات المتحدة الأمريكية نجدها تتحدث عن تلك المفاهيم، إذ أن علاقتها مع الدول تتحدد بمدى التزام الدول بمبادئ حقوق الإنسان، ولكن، وسط كل ذلك ظهرت فجأة قضية الصحفي المقتول جمال خاشقجي. لتضع إدارة الرئيس ترامب، وترامب نفسه أمام تحدي واختبار حقيقيين، إما التضحية بصديقه بن سلمان، وبمليارات الدولارات أو التضحية بالمبادئ الديمقراطية وحرية التعبير.

في الوقت الذي وجدت الرواية السعودية الاستنكار من قبل دول، ومنظمات عديدة منها الاتحاد الأوروبي، قابل الرئيس الأمريكي الرواية بترحيب وشدّد على أن الرواية السعودية جديرة بالثقة

إن مواقف دونالد ترامب إزاء قضية اغتيال جمال خاشقجي تبيّن لنا حالة الربكة والتردد والتوهان التي يمر بها الرئيس الأمريكي، ففي الوقت الذي أجمعت فيه الأوساط الصحفية والإعلامية والوسط السياسي، سواء كان الحزبي أو حتى الكونغرس، في الوقت الذي أجمعت تلك الأوساط على موقف أقرب ما يكون إلى إدانه النظام السعودي والعاهل بن سلمان شخصياً، كان ترامب من خلال تصريحاته يحاول أن يغسل الدم الذي أراقه صديقه ليس بسبب غير محاولة إنقاذ صفقة السلاح ذات المائة وعشرة مليار دولار، وقد قالها بنفسه.

والمتابع لتصريحات ترامب منذ يوم الحادثة يدرك جيدا أن الرجل بين (عسل وبصل) أو بين أمرين أحلاهما مر، ففي بداية الأزمة حرص "المستثمر ترامب" على التأني ومحاولة معرفة ملابسات القضية، ثم مع تزايد ردود أفعال الأوساط الدولية تجاه القضية بدا واضحاً أن الرئيس الأمريكي قد ضُغط عليه كي يبدي موقفا واضحا تجاه القضية، وقد قابل الضغوط ببعض العبارات مثل تأكيده أن السعودية حليف هام، وأن صفقة المليارات يجب ألا تلغى. ومع تزايد التسريبات والتي تزايدت معها أصابع الاتهام تجاه القيادة العليا في المملكة، خرجت الجهات الرسمية في السعودية عن صمتها وأكدت أن خاشقجي قد قتل "عن طريق الخطأ" في مشاجرة داخل القنصلية.

في الوقت الذي وجدت الرواية السعودية الاستنكار من قبل دول، ومنظمات عديدة منها الاتحاد الأوروبي، قابل الرئيس الأمريكي الرواية بترحيب وشدّد على أن الرواية السعودية جديرة بالثقة. ولكن سرعان ما تبدل الموقف في خلال ساعات فقط حينما أكد ووصف في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست أن الرواية السعودية فيها خداع وأكاذيب وأن هناك تخبط في تفسيرات السعودية. وهذا ما يمثل تراجعا واضحا لموقفه تجاه النظام السعودي.

إذاً، يمكن ببساطة ملاحظة إدراك حجم الضغوط التي يواجهها الرجل، والتي تعكسها كمية التخبط والتبدل في المواقف وفي التعاطي مع القضية منذ اليوم الأول ما يبين أن الرئيس ترامب يحاول مسك العصا من النصف، وفي تصريح آخر عندما سُئل عن موت جمال قال إنه يبدو من المؤكد أن خاشقجي قد مات، وأن العواقب يجب أن تكون بالغة الشدة.

موقف ترامب والقيم الأمريكية:

من الواضح كما أسلفنا أن ترامب يواجه ضغوطاً داخلية، ففي الوقت الذي أكد فيه رئيس لجنه العلاقات الخارجية بالكونغرس السيناتور الجمهوري كروكر أنه يعتقد أن محمد بن سلمان مسؤول عن قتل خاشقجي في تصريحات لشبكة سي أن أن وقد ذهب أكثر من ذلك وأكد أن السعوديون أنفسهم والعالم أجمع مدركون أن محمد بن سلمان فعلها. كوكر نفسه وقّع رسالة ومعه نائبه روبرت مينينديز طالبوا من خلالها الرئيس ترامب بفرض عقوبات على المملكة العربية وفقاً لقانون "ماغنيسكي" بخصوص الأجانب الذين يرتكبون انتهاكات خارج الحدود.

وفي وقت سابق أودع الرئيس المشارك للجنة حقوق الإنسان في مجاس النواب جيم ماك غوفرن مشروع قانون أمام الكونغرس يهدف إلى تعليق جميع صفقات بيع الأسلحة إلى الرياض وفرض حظر على تقديم أي دعم أمني من الحكومة الأمريكية ما لم يتخذ وزير الخارجية مايك بومبيو قرارا بشأن ما إذا كانت القيادة السعودية متورطة في قضية خاشقجي.

قضية خاشقجي هي قضية مكتملة الأركان والبينات ولا يجب ان تأخذ كل هذا الوقت لمجرد الإدانة فقط، ولكن على ما يبدو أن كل الدلائل تشير إلى الفرضية أو فلنقل الحقيقة وهو أن المال سوف يهدر بلا شك كرامة إنسان حر
قضية خاشقجي هي قضية مكتملة الأركان والبينات ولا يجب ان تأخذ كل هذا الوقت لمجرد الإدانة فقط، ولكن على ما يبدو أن كل الدلائل تشير إلى الفرضية أو فلنقل الحقيقة وهو أن المال سوف يهدر بلا شك كرامة إنسان حر
 

وتزايد الضغط الداخلي على ترامب، إذ صرح جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قال أن الرئيس دونالد ترامب يدمر القيم الأمريكية، كما أعلن وزير الطاقة السابق أرنست مونيز أنه قرر تعليق دوره الاستشاري في مشروع مدينة "نيوم" الاقتصادية في السعودية لحين معرفة مزيد من المعلومات عن الصحفي جمال خاشقجي.

ففي الوقت الذي يسيل لُعاب ترامب من جراء مليارات آل سعود، نجد في اتجاه آخر يتم اتهامه بمحاولة ضرب القيم الأمريكية بسبب الأموال، لذلك تجده محاصر من كل الاتجاهات حتى من أعضاء في الحزب الجمهوري نفسه. كما أن "جشع" ترامب وضعفهأامام الأموال، جعل حتى المهتمين يهددون بإيقاف المليارات وتجميد الدعم المالي للولايات المتحدة والاتجاه نحو دول منافسة لأمريكا، وهو ما وضع ترامب في ضغط من نوع آخر.

كل تلك الملابسات وردود الأفعال والأحداث والمواقف، هو في انتظار الرد الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية تجاه القضية وتجاه التعامل والتحالف مع آل سعود. ولا شك في أن العالم الآن يترقب كيفية تصرف الرئيس الأمريكي مع هذا المأزق وماذا سيختار: المبادئ والقيم أم الأموال؟ خصوصاً بعد ما جاء في حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والذي لم يحمل جديداً يذكر عدا أنه رمى الكرة في ملعب بن سلمان. وكان ترامب قد صرح بأنه سوف يشرك الكونغرس في إعداد الرد الأمريكي على قضية خاشقجي.

بعيداً عن مواقف ترامب، وطالما الحديث منصب حول المبادئ والمواقف والأموال، ما يؤسف حقاً هو عملية شراء المبادئ، فدول عدة أعلنت موقفاً واضحا وداعما للمملكة سواء كانت تلك الدول في المحيط الإقليمي والعربي أو خارج الإقليم، فحتى باكستان أعربت عن دعمها للمملكة في تصريح رسمي لأحد المسؤولين رغم أسفها حسب المصدر لمقتل خاشقجي وقد قالها المسئول صراحة أنهم بحاجة للأموال. حتى أسرة المقتول لم يبدوا ردة فعل قوية وواضحة وإنما منذ البداية أعربوا عن دعمهم للحكومة وتحقيقاتها، وقد استضافهم الملك وولي عهده في القصر الملكي.

حقيقة الأمر أن كل الأدلة والبراهين لا تقول شيء غير تورط المملكة في تصفية الصحفي خاشقجي، وكل البينات تضع المملكة في خانة الاتهام ولا يقول عكس ذلك إلا من يرى الماء ويصر على أنها تراب أو شيء آخر غير الماء، فقضية خاشقجي هي قضية مكتملة الأركان والبينات ولا يجب ان تأخذ كل هذا الوقت لمجرد الإدانة فقط، ولكن على ما يبدو أن كل الدلائل تشير إلى الفرضية أو فلنقل الحقيقة وهو أن المال سوف يهدر بلا شك كرامة إنسان حر لا يملك سوى قلمه ليعكس الأمور ويكون صوت من لا صوت له وهو ما يؤسف له حقاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.