بعد صمت طويل ومحاولة يائسة لإنكار ما حدث، وبعد الضّغط الدّولي الشّديد والمهلة الّتي أعطيت لهم من قبل ترامب لتوضيح ما وقع، وبعد جهد جهيد تمخّض الجبل فولد فأرا، أخرجت لنا السّلطات السّعودية رواية ساذجة تافهة سخيفة استهجنها الجميع ولم يصدّقها أحد سوى من أملى عليهم كتابتها، تبعتها نسخ منقّحة تكذّب وتناقض ما سبقها في تحقّق للمثل العربي: "كاد المريب أن يقول خذوني" فما الّذي يجعل روايات السّعودية غير قابلة للتّرويج وعصّية على أن يتقبّلها كلّ ذي عقل سليم؟

بعد اختفاء الأستاذ جمال خاشقجي يوم الثّلاثاء2 أكتوبر 2018 أصرّت السّلطات السّعودية على أنّ مواطنها خرج من القنصلية ولا تعلم عن مصيره شيئا، وقد جاء ذلك على لسان وليّ العهد نفسه ليكذب على رؤوس الملأ ويكرّر الكذبة قنصل السّعودية باسطنبول محمّد العتيبي ثمّ وزير الدّاخلية ومستشار الدّيوان الملكي سعود القحطاني وكلّ أفراد جيشه من البعير الإلكتروني بل إنّهم اعتبروها مؤامرة ووجّهوا الاتّهامات لقطر وتركيا، لتستمرّ مرحلة الإنكار لأيّام في تجلّ لانفصال شديد عن الواقع على أمل أن تهدا العاصفة وتنطفئ ردّة الفعل العالمية غير المتوقّعة والغير مسبوقة تجاه جريمة كان يمكن أن تمرّ كسابقاتها وتطوى صفحتها وهم من سبق لهم أن فعلوا مثلها وأكثر مع آخرين فما اهتزّت السّماء وما حاسبهم أحد.

كان الأستاذ خاشقجي صادقا نصوحا محبّا لوطنه وشخصا مؤثّرا قريبا من دوائر القرار وكان يسعى للتغيير متّخذا كأسلوب الحوار والتّوافق وتلاقح الأفكار، لم يشفع له اعتداله ورقيّ طرحه من أن يكون هدفا للتّصفية في أبشع وأفظع وأغبى عمليّة اغتيال في التّاريخ من قبل أغبى وليّ عهد في التـاريخ لتتبعها بعد الإنكار أغبي رواية سخيفة في التاريخ.

يقول الشّاعر العربي: لكلّ داء دواء يستطبّ به.. إلّا الحماقة أعيت من يداويها ويقول المثل العربي: يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه وهو اختزال معبّر لكلّ ما نشهده من تخبّط وارتباك لدى السّلطات السّعودية، ربّما أرادت هذه الأخيرة من خلال حركة حمقاء غير مدروسة أن تستعرض عضلاتها وتؤدّب من يخرج عن بيت الطّاعة اعتقادا منها أن يكون لها تأثير الصّدمة فإذا بها تصدم أمام ردّة الفعل العالميّة وكأنّها صحوة لضمير إنساني اعتقدنا أنّه مات.

من غباء السّلطات السّعودية المختزلة ككلّ الفاشيات الدكتاتورية في رأس السّلطة المتمثّل في وليّ عهد، وهو شاب أرعن مغامر مفتقد للتّجربة ومنتفخ بجنون العظمة، أن استخدمت فريقا خاصّا من دائرة وليّ العهد الضيّقة في تنفيذ عمليّة الاغتيال وتكليف ماهر مطرب بالإشراف على ذلك وهو من رصدت له مكالمات مع مرؤوسيه ومنهم سكرتير وليّ أمره ليحيطهم علما بما يجري، ومن الهفوات القاتلة أن يكون مسرح الجريمة قنصلية السّعودية في تعدّ سافر على اتّفاقية فيينا، ثمّ تخبّطهم ومماطلتهم في السّماح بتفتيشها وتفتيش بيت القنصل الّذي هرب مؤكّدا الشّكوك الّتي تحوم حوله وحول من أمره بالهروب.

وتواصلت مرحلة اللخبطة والكذب المفضوح ليضطروّا في النّهاية لإخراج رواية في شكل أوامر ملكية صدرت كالعادة بعد منتصف اللّيل معترفين بموت الرّجل بعد مرحلة مستميتة من الإنكار، مكذّبين أنفسهم ومدّعين أنّ ذلك كان خطأ واثر شجار، رواية صدرت بعد يومين من تلميح شرطي دبي المتقاعد ضاحي خلفان لمثل هذا السّيناريو السّخيف وكأنّ أمر الاغتيال هو صادر من هناك في إطار توريط السّعودية ودفعها إلى الهاوية كما يفعل بها في اليمن مع العلم بأنّ إحدى الطّائرتين الخاصّتين الّتي غادرتا بعد تنفيذ عمليّة الاغتيال الغادرة توجّهت إلى الإمارات أمّا الأخرى فكانت وجهتها مصر وقد يكونا يحملان أجزاء من جثّة الشّهيد المغدور به، الجثّة الّتي قطّعت بمنشار والرّجل مازال حيّا على نغمات الموسيقى كما نصح بذلك الجزّار صلاح الطّبيقي لامتصاص صدمة فظاعة المشهد المروّع ومن المضحكات المبكيات أن تكون الموسيقى عندهم بدعة وحرام في حين قتل نفس بشرية بغير حقّ حلال وطاعة لولي الأمر فيها جمع للحسنات وفتح لأبواب الجنّات.

هي مشاجرة إذا وخصام وعراك بالأيدي، جلب فريق الاغتيال خلال غزوتهم بالصّدفة منشارا وكان ضمنهم طبيب مختصّ في التشريح لتقطيع الجثّة وقد تسرّعوا وشرعوا في ذلك والرّجل على قيد الحياة، ذلك ما تفضحه التّسجيلات أمّا روايتهم فكانت من أسخف الرّوايات، فصراخ الرّجل استفزّهم وكيف لا وفي بلده من يهمس سرّا يلقى في المعتقلات فكيف لمن يصرخ؟

 

وربّما يكونون يخشون من أن يزعج صراخه المحيطين والجيران مع أنّهم أعطوا إجازة لكلّ موظّفي القنصلية في نصف ذلك اليوم وكان كلّ ذلك بالصّدفة بدون سابق إصرار أو ترصّد، وكلّ ما فعلوه أنّهم كممّوا فم الرّجل لمنعه من الصّراخ فتوفّي المسكين اختناقا ربّما لقصور لديه في التنفّس أو مشكلة له في القلب، هو خطا مهني بسيط كخطأ طبّي لأحد الجرّاحين قد يحدث لأمهرهم، أمّا عن الجثّة فهم سلّموها لمتعاون محلّي لا يدرون له اسما ولا عنوانا. هو قتل عن طريق الخطأ ارتكبه أشخاص ولا علاقة له بوليّ الأمر في بلد يكفّر من يعصي لوليّ الأمر أمرا بل ويصدر أحكاما بالقتل تعزيرا لمن لا يبرز طاعته له بما فيه الكفاية.

هل تعتقدون أنّ مجرما أوكل إليه التحقيق في جريمة ارتكبها سيسعى لكشف الحقيقة أي أن يضع طوعا حبل المشنقة حول عنقه؟ وكيف له أن يتنازل عن كرسي بات منه على قاب قوسين أو أدنى؟ ليموت الجميع ويضيع الوطن ويحيا الملك! هي رواية ساذجة تافهة ترشح غباء بقدر غباء من كتبها تعجز اشدّ العقول غباء على تقبّلها والوحيد، إلى جانب قطيع المغيّبين من البعير الالكتروني وجوقة المطبّلين، من تقبّلها نسبيّا هو ترامب الّذي كان يقبلها في الصّباح ليرفضها في المساء في إطار عمليّة حلبه للبقرة حتّى يجفّ ضرعها.

كلّ ما يفعلونه هو البحث عن كبش فداء بعيدا عن الرّأس المدبّر ولو قدّم له الجميع قرابين وفداء ويقولون أنّ من قام بالجريمة قام بها وهو يقدح من رأسه مع أنّ عقيدتهم هي الولاء والطّاعة العمياء وأنّهم لا يقطعون خطوة إلاّ بعد مشورة وموافقة ولو كان ذلك لقضاء حاجة في بيت الخلاء. هو استحمار واستغباء، استخفاف بالعقول وضحك على الذّقون وذرّ للرّماد في العيون ما أشبهها بمحاولة رجل أبكم لأن يقنع آخر أطرش بانّ ثالثا أعمى شاهد ماعزا تطير في الثلاثين من شهر فبراير!

سيواصلون هروبهم إلى الأمام وسيخرجون قصصا أخرى وفق الضّغوطات والمستجدّات ولعلّ ظهور عادل الجبير بعد اختفائه طوال تسعة عشر يوما لينطق من جديد محاولا حفظ ماء وجه وليّ العهد وتبييضه بعد أن اسودّ دليل على أنّهم لا يبحثون عن حلّ جذري للأزمة بل يقومون بتعقيدها وإطالتها وسيستميتون في إبعاد الشّبهة عن المجرم الحقيقي ظنّا منهم من انّه يمثّل ويختزل الوطن ومتناسين خطورة اللّحظة الحرجة الّتي يمرّ بها هذا الوطن بسبب حماقات مهوّس بالسّلطة، متهوّر ينقل بلده من أزمة إلى أخرى وهو ما يتطلّب تدخّل الحكماء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

حتما ستتحقّق العدالة ولن تذهب دماء خاشقجي هدرا، وستتحقّق كلمات الله: "وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ". رحم الله الشّهيد الحيّ جمال خاشقجي من قال: "البعض سيرحل ليبقى" والّذي كان لغيره رحمة حيّا وميّتا وجعل الله هذا الاستنفار الّذي تبع مقتله نهضة وصحوة فمثل الأستاذ آلاف المعتقلين في سوريا والعراق والسّعودية ومصر والإمارات من يموتون في اليوم ألف مرّة.