شعار قسم مدونات

هل تقبلين بي؟.. مصاب بـ"الببلومانيا"!

blogs تأمل

أخرج الخطيبُ في (الجامع لأخلاق الراوي والسامع) عن الزُّبير ابن أبي بكر بكَّارٍ قال: قالت ابنة أُختي لأهلنا: خالي خيرُ رجل لأهله؛ لا يتخذ ضرَّةً ولا يشتري جارية. قال: تقولُ المرأةُ (أي زوجته): والله لَهَذه الكتب أشدُّ عليَّ من ثلاث ضرائر!" هل تقبلين الزواج برجلٍ لا يرى الدنيا إلاّ مكتبة مليئة بالكتب والمُجلدات؟ ومتعته أن يقف أمامها فرحًا كما يقف العاشقُ أمام محبوبه في لحظة عشقٍ سماويّةٍ! هل تقبلين الزواج برجلٍ إن أمسك الكتاب انصهر بين أوراقه؟ فلا ينفك عنه حتى يقضي منه ما يريد.

هل تقبلين الزواج برجلٍ تتمحور حياته حول الأحرف والكلمات؟ محاولًا الإمساك بهن وإنشاء عُلاقة غرامية تصل إلى التماهي الأبدي. عالمي هو، نيتشة، شكسبير، فرويد، فرانز كافكا، ماركيز، سيد قطب، بيجوفيتش، على شريعتي. هذا ما يحظرني الآن؛ لأن هؤلاء ملتصق بهم روحيًا، إذًا أنا أحيا أكثر من حياة، وأكثر من نجاح، وأكثر من فشل! حيث لا يتسرَّب الملل إلىّ. كل عالم أدخله فيه شيئًا جديدًا، وله من المتعة ما يختلف عن غيره. العمر قصير ليس فيه متسع أقرأ كل ما كتب  وأعتبر مرور الدقيقة دون قراءة هي مضيعة لمعلومة يمكنها أن تُشبع نهمي، تجعلني أعيش تلك اللحظة التي كان كاتبها يعيشها، ولذلك تجدني أخوضُ صراعًا مع الوقت.

القراءة تفتق العقل وتُنير البصيرة وتُزيل الغشاوة من على عينيك؛ وبدونها يصبح المرء كالطفل بلا مرشد يسير في بيداء الحياة مجانباً السير في الطريق الصحيح. القراء ليست ترفًا أو قتل للوقت بل هي تجديد للروح والعقل، وإعادة ترميم الأفكار بين الحين والآخر. بدون القراءة سنبقى ندور حول أنفسنا وننتج أفكار ورؤى ميتة لا حراك فيها؛ وأما إذا ما خرقنا هذا الحاجز لتمتد أبصارنا إلى الأفق اللامتناهي حينها يمكننا أن نصنع شيئًا جديدًا خال من السطحية والركاكة في الطرح. عندما تقرأ فأنت تتَشَظَّى في كافة الاتجاهات، وتعتلي أكثر من عقل، وتخترق المسافات، تصبح مكتبة متنقلة فلا يعتريك الملل ولا تصاب بالوحشة.

لا وقت لدي لأن أخرج معكِ في رحلة رومانسية، أو الذهاب إلى مطعم في أحد أطراف المدينة نقضي بعض الوقت في تناول وجبة دسمة، هذه الأمور لم تعد تعني لي شيئًا.

القراءة تُريك المجهول، وتكشف الملبوس، وتطرق المأهول، لأنها لا تأبه شيء، وقوتها وسرها في ذاتها يكمن. القراءة غذاء الروح بها يسافر المرء بعيدًا عن ذاته ينفصل عن ماهيَّته لا قيمة للجسد. القراءة هنا مجازًا تخلق الأرواح وتنعش العقول وتوسِّع الأُفق، فالذي يقرأ ويكتب لا يموت بل يبقى حيًا وإلا فكيف نقرأ الآن لمن طواهم الموت من سنين غابرة؟ أمس ذهبتُ إلى الطبيب مستوضحًا عن أعراضٍ تصاحبني تجعلني؛ أشعر بصداعٍ شديد واِحْمِرَار في العينين، حيث تجدني لا أستطيع إدامة النظر كثيرًا في الكتب؛ خاصة في الليل، تكلم معي الطبيب محاولًا تشخيص حالتي، وصل به الأمر أني مصاب بالببلومانيا (bibliomania).

وهي حالة متطرفة من حب الكتب؛ والإشارات الأولى لهذا المرض تبدأ بالشعور بالبهجة والسرور عند مشاهدة أي كتاب، وسرعان ما ينقلب الأمر إلى الرغبة في اقتناء ومطالعة أي كتاب من أي نوع. أما المرحلة المتقدمة منه فتتميز بالرغبة في تجميع أكبر قدر من الكتب. قال الإمام ابن القيم في "روضة المحبين": وحدثني شيخنا – يعني ابن تيمية – قال: ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، أليست النفس إذا فرحت وسرت وقويت الطبيعة فدفعت المرض؟ فقال: بلى، فقلت له: فإن نفسي تسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة، فقال: هذا خارج عن علاجنا".

وقال ابنُ القيم أيضًا: "وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمَّى وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إِفاقةً قرأ فيه، فإذا غُلِبَ وضعَه، فدخل عليه الطبيبُ يومًا وهو كذلك فقال: إن هذا لا يحلُّ لك فإنك تُعين على نفسك وتكون سببًا لِفَوْت مطلوبك". في حالتي لا أصاب بالخيبات، ولا أعرف طريقًا إلى السأم، كل ما أريده أجده بين دفتي كتاب، وكما قال "غيلبرتهايت": الكتب ليست أكوامًا من الورق الميت، إنها عقول تعيش على الأرفف". فيمكنني أن أعيش مع سقراط وأرى مشهد موته وهو يتجرَّع السم، وأشاهد محاضرات أفلاطون في الأكاديمية، وأرى سبينوزا وهو يكتب "رسالة في اللاهوت" ولا غرابة أن شاهدت "معارك داحس والغبراء".

تريدين أن تكوني أكثر حضورًا في حياتي، أكثر عمقًا في تفاصيلها لا بأس؛ ولكن عالمي مليء بالأسماء، الأماكن، الطيِّبون، الأشرار. الأتقياء، الفجار.. يمكنكِ أن تجديني يومًا "دوستويفسكي" وبعد ذلك "كارل ماركس"! فأنا أتكيف مع ذاتية اللحظة.  والسؤال: هل تقبلين بي؟ إن كان كذلك؛ فهذا عالمي الذي أحيا به وأتنفسه، لذلك لا وقت لدي لأن أخرج معكِ في رحلة رومانسية، أو الذهاب إلى مطعم في أحد أطراف المدينة نقضي بعض الوقت في تناول وجبة دسمة، هذه الأمور لم تعد تعني لي شيئًا. الوقت لي هو الذي أفرضُ عليه سيطرتي مستغلًا كل دقيقة. ورحم الله "عيسى بن أحمد اليونيني" حيث ذكر الذهبي عنه في (سير أعلام النبلاء) "لم يشتغل إلا بالعبادة والمطالعة، وما تزوج، بل عقد على عجوزٍ تخدمه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.