شعار قسم مدونات

هل نحتاج لشيوخ أم مفكرين للخروج من مآسي الواقع؟

blogs الإسلاميون

منذ حوالي القرنين أو يزيد بدأت ملامح الهوية الاسلامية تتغير ويتغير معها بالتوازي عقلية الفرد المسلم وبطبيعة الحال الوضعية الاجتماعية والنفسية المسيطرة عليه، إننا اليوم نعاني من تراكم تلك الحالات الغريبة واللامقبولة من الأفكار والتيارات الفكرية والعقدية التي صالت وجالت في ربوع العالم الإسلامي بشكل لم يسبق أن حدث مثله في تاريخ الإسلام، وقد ألقت تلك التغيرات بظلالها على كافة الشؤون الحياتية بجميع مجالاتها على المسلمين ونستعرض بعضا منها في هذا المقال.

أول طاعون نخر جسد الأمة هو طاعون العلمانية وما جاءت به من فساد وانحلال وتمييع، بل سأقول أنها السبب الرئيسي في كل ما نقاسيه اليوم في بلداننا، ربما ينظر البعض إلى العلمانية على أنها أرقى ما وصل إليه التفكير البشري وأنها السبيل لإنقاذ البشرية من المشاكل التي ترذخ تحتها والتي حسبهم أساسها الدين والمتدينون، سأغض الطرف وأتوافق معهم حول هذه النقطة، ولكن في حقيقة الأمر هذا الطرح يخص الدول الغربية ونظيراتها التي أساسا لها عقيدة محرفة، وليست شريعة ربانية تسير عليها، فكان لزاما عليهم اتخاذ منهج يسيّرون به شؤون دنياهم وفق ما يريدون ويرغبون –عبادة العلم-، ولكن الأمر بالنسبة للمسلمين انتهى الحوار بشأنه مع نزول الآية الكريمة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، فالدين قد اكتمل واكتملت معه الشريعة والأحكام، فلا حكم إلا حكم الله ولا شرع إلا شرعه، وهذا ما التزم به المسلمون قرونا عديدة مع وجودة سلطة فاسدة أحيانا وهذا سأتطرق إليه في المقالات القادمة.

 

ولكن حتى مع وجود تلك السلطة الفاسدة فقد كان التشريع شيئا مقدسا له مكانة خاصة في قلوب الحكام والمحكومين، فهو الذي ينظم حياة الناس وبه تتسمى الدولة إسلامية والمجتمع مسلما، وحتى لما أراد جنكيز خان أن يجعل للمسلمين دستورا يحكمهم به وسماّه الياسق، جهر العلماء في تلك الحقبة بعدم جواز ذلك ونبذ كل من يتحاكم إلى ذلك الدستور الجاهلي وإن كان فيه بعض القوانين الإسلامية، مثل ما يحدث اليوم بالضبط، ولكن كثير من العلماء أجبن من أن يصرّحوا بذلك علنا أما العامة ولو لأجل تحذيرهم فقط.

 

لقد تم تغييب الشريعة من واقع المسلمين حتى نسوها وازدروها، وأصبحت هذه الكلمة غريبة بل مخيفة في كثير من الأحيان، في حين عدّها بعض اللائمين تخلفا ورجعية إلى الوراء

إنها بلية عظيمة في الواقع، فقد أخذ الله الميثاق على العلماء وورثة الكتاب والعلم بالصدع بالحق وعدم الخوف من لومة أي لائم في سبيل هذا الدين والذود عن حياضه، لقد أضحى بعض العلماء اليوم مناديل ورقية في أيدي من يستخدمونهم وبمجرد الانتهاء من خدماتهم يرمى بهم في صندوق القمامة، وتبعتهم في تلك الأفعال الكثير من الفرق والجماعات الهائمة على وجهها ترجو الخلاص، فتجدها تأكل لحوم بعضها في نقاشات بيزنطية وحروب كلامية لا تزيد الخرق إلا اتساعا، غاضّين الطرف عن الحقيقة المغيّبة التي هي محور القضايا وأساس قوام الدين "الحاكمية".

إننا اليوم لا نعيش في مجتمع إسلامي وإن كان غالب أهله مسلمين، فالفرق شاسع جدا بين العيش تحت ظل الإسلام وبين ما هو واقع اليوم، فالأنظمة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها ليست سواء، ولا مجال للمقارنة بين المنهج الإسلامي والعلماني في هذا الشأن أبدا، لقد تم تغييب الشريعة من واقع المسلمين حتى نسوها وازدروها، وأصبحت هذه الكلمة غريبة بل مخيفة في كثير من الأحيان، في حين عدّها بعض اللائمين تخلفا ورجعية إلى الوراء، إلى ما قبل العصور الوسطى، أو لا يعلمون أنها كانت عصور أنوار قبل ظلمات العصور الوسطى الأوروبية، لقد كانت حياة الأمة الإسلامية كلها أنوار، ولم تنطفئ تلك الأنوار إلا مع قدوم طلائع المختلين الغزاة الذين لم يقيموا دينا ولا دنيا لهذه الأمة.

وأفضل من كتب في مثل هذه الأفكار هو الشهيد الحي بإذن الله سيد قطب، فقد أبدع وأنصف وحلل بموضوعية، فيصرّ على أن الجاهلية الحديثة قد فعلت فعلتها في الأمة الإسلامية، ولم يدر رحمه الله أن الأوضاع قد ازدادت سوءا وتعقيدا وتطرفا. إنّ الإسلام لم يكن يدعو ولا مرة إلى الإرهاب أو العنف أو القتل بدون بينة، فهذه افتراءات يسوقها العلمانيون لتغييب حكم الدين ولتكريه نفوس الناس فيه، ولكن الواقع يشهد بعكس ذلك، وقد أبثت التاريخ أنّ كل أمة عاشت تحت حكم الإسلام فضّلته على غيره، بينما الشعوب التي عاشت تحت حكم الدول العلمانية لم تزدد إلا بؤسا وانحدارا، ناهيك عما وقع لها من قتل وتشريد وتعذيب، وكل ذلك مع ظهور العدو المجرم بثوب البريء والداعي للخير والتطور، فكان فوق الشر المطلق والعنجهية نفاق وكذب، فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.

لقد أصبح من الضروري أن نجعل العمل لإحياء الدين والشريعة أولى الأوليات، ولا يجب تقديم المصالح الاقتصادية وغيرها على ذلك، فنحن لسنا شعوبا مادية -مع أننا نسير في هذا الاتجاه-، ولكننا شعوب روحانية تؤمن بالإله واليوم الآخر، وغالبا مثل هذه المجتمعات تصبر على الجوع والخوف مقابل أن لا تفرّط في دينها وعقيدتها، وهذه نقطة يجب استغلالها جيدا من قبل المصلحين والدعاة، ولا أقصد هنا مشايخ الفضائيات أو علماء البلاط، ولكن من بقيت لهم ذرة نخوة وغيرة على دينهم وأمتهم.

المفكرون هم القادرون على أحداث ثورات فكرية تمتد عشرات بل مئات السنين، بينما نجد أن أغلب المفكرين اليوم مهمشمون أو لا يُأبه لهم، أو بعضهم قد أصابهم الجمود الفكري
المفكرون هم القادرون على أحداث ثورات فكرية تمتد عشرات بل مئات السنين، بينما نجد أن أغلب المفكرين اليوم مهمشمون أو لا يُأبه لهم، أو بعضهم قد أصابهم الجمود الفكري
 

إنه يجب علينا التعلم من الأخطاء السالفة ومحاولة تجنبها مستقبلا، والاطلاع الكافي على السنن الكونية التي وضعها الله سبحانه ليسود دينه الأرض، ولا ينبغي لنا تجاوز أي سنة من دون استكمال التي قبلها، حتى نتبع المنهج الرباني فيما قرره على المؤمنين إذا ما أرادوا السيادة والتمكين، ومن نقاط القوة التي تم تجاهلها، أنّ العالم ينظر للمسلمين على أنهم غثاء كغثاء السيل ولا يشكلون أي خطر على القوى المسيطرة عليهم وعلى مصائرهم، وهذا سيساعدنا في العمل قدما بدون لفت انتباه تلك القوى الشريرة المتربصة بنا، فمن تكتيكات التضليل إيهامك لعدوك بالضعف وقلة الحيلة، حتى إذا ما أرخى أطرافه وأمن جنبه، تمكّنت منه وكان سهلا عليك مواجهته ومفاجئته أيضا.

كما نحن بحاجة لإبداع المفكّرين وطرحهم لأفكار جديدة أو تمحيصهم للأفكار القديمة، وتقديمها بما يلائم الوضع الراهن، إنه لا ينبغي الاعتماد على الفقهاء والمشايخ في وضع الاستراتيجيات والميكانزمات التي ستخرجنا مما نحن فيه، نعم سنحتاجهم ولكن عملهم الرئيس هو مطابقة الأفكار التي تعرض عليهم مع الشرع، فالمفكرون هم القادرون على أحداث ثورات فكرية تمتد عشرات بل مئات السنين، بينما نجد أن أغلب المفكرين اليوم مهمشمون أو لا يُأبه لهم، أو بعضهم قد أصابهم الجمود الفكري نتيجة الواقع الأليم الذي تعيشه الأمة.

كانت هذه تأملات على عجل كُتبت دفعة واحدة والأمر يحتاج لمزيد من التوسع في النقاط التي عرضت والنقاط الكثيرة الأخرى التي تطفو على السطح أو تغوص في الأعماق ولا نعطيها حقها من الدراسة والبحث والتحليل، فقد حان الوقت لنفض الغبار وبداية العمل الجاد لإحياء هذه الأمة بعد ترك كافة الأطماع الشخصية والدنيوية مركونة إلى جنب، فلا يتقحم مثل هذه الأمور إلا من أحس بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه ومن أعطى مواثيقه لله سبحانه على العمل لهذا الدين، فمن يعمل لدينه ويكافح لأجله سيعيش متعبا مرهقا ولكنه سيحيا عظيما ويموت عظيما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.