شعار قسم مدونات

قصّة وشخصيّات.. تجربتي مع حركة فتح

blogs الحركات الطلابية

قصّتي وتجربتي مع فتح؟ وتحديداً داخل أُطرٍ طلابيّة، لم أكنْ على درايةٍ كيف يتمُّ هذا؟ وما الداعي له؟ عشتُ أوّلَ ثلاثَ سنين في جامعتي، الجامعة الأردنية، أدرسُ الهندسة، ولم أكترثْ يوماً للعمل السياسي الطلابي الذي كان محتدماً على ما أذكر، وكما أسلفتُ، لم أعلم ما كان يدورُ في كواليسه بالضبط، ولكن كنتُ أرى بعض الطلاب في اجتماعات وما شابه ذلك، قبيل انتخابات مجلس الطلبة، وقد كان هذا الحدث الأبرز في الجامعة الأردنية، تقعُ فيه جميع الأطياف من يسار، اتجاه إسلامي، تيار الوطن أو العشائر، وأخيراً "فتح" التي كانت منقسمة لأكثر من إطار، وقد كان أبرزها "الوحدة الطلابية" و "الحركة الطلابية" ومن هنا تبدأ تجربتي والتي تركتْ أثراً كبيراً بلا شك مع أنها لم تدمْ طويلاً!

  

كان العمل السياسي في الجامعة الأردنية قذراً للغاية، وكنتُ أرى فيه عطباً واضحاً، وذلك لأنّ أبعاده بُنيت على التشويه في المقام الأوّل، ولن أدخل في تفاصيله هنا، ولن أطعنْ أو أقدحْ في إطار معين، إسلاميّاً كان، عشائريّاً، أو يساريّاً، فجلُّ ما أريد قوله هنا، هو تجربتي ومدى انعكاساتها عليّ.

   

لم أخضْ في انتخابات مجلس الطلبة كثيراً، إذْ أنّ هدفي ومبتغاي كانا ينصبَّان في إيضاح وتحقيق رسالة "الوحدة الطلابيّة" ومحاربة حملات التشويه ضدّها! وقد كانت حملات شرسة تضربُ من كلِّ جانب، وتَطالُ جميع أعضائها

بدأتْ القصّة في سنتي الرابعة، حينما تعرّفت على الصديق النقي والصادق "محمد حجاز" كان يدرس هندسة الحاسوب، ويصغرُني بسنتين، الشاب الوطني والشرس في فلسطينيته وما زال، فهو على عهد مع فلسطين حتّى آخر رمقْ، إنّ أوّل منشور قد قمنا بتوزيعه كان يحملُ عبارةً لمحمود درويش: "إنْ كان هذا الحُلم لا يكفي، فلي سهرٌ بطوليٌّ على بوابة المنفى"، إنّ فحوى ما تريد زرعه "فتح" طلابيّاً وفي جميع المحافل، هو الحفاظ على الهويّة من الضياع في كتب التاريخ، فحربُنا مع بني صهيون هي حرب هويّة وعلى طول الخطّ، ولم أعِ أو أُدركْ هذا التصوّر إلّا بعد حين، وقد كانت "فتح" تُهاجَم على أنّ ما تريد بثّه بين الطلاب هو عنصرية نتنة وعفنة، ولكن هذا لم يكنْ صحيحاً بالمطلق، وإثباتُ هذا يُحتِّمُ عليك التعاطي معهم ومخابرة صدقهم، مع العلم أنّ الصدق لم يكنْ في كلِّ واحدٍ منهم، وكلُّ واحدٍ منّا يُأخذُ منه ويردُّ عليه، والكمال لله جلّ وعلا، ولمْ يكنْ يوماً في بشريّ.

 

امتدّت صداقتي مع "محمد حجاز" لتصل بي إلى عرين الوحدة الطلابيّة، والتي امتلأتْ بحوارات غنيّة بالثورة وفلسطين وياسر عرفات "أبو عمّار"، والقيادات التي كانت حوله، وأودّ أنْ أذكر مدى وُسعِ الدائرة المعرفيّة لمحمد في قضايا فلسطين والثورة، وأظنّ أنّ ذلك يعود لوالده، الذي أمضى شبابه في منظمة التحرير، تاركاً هذا الأثر على ابنِه، ومحمد هو أحد الأجوبة عن سُؤال "ماذا يعني أن تكون فتحاوياً؟" وعن طريقِ محمد انتقلتُ في قصّتي إلى شطرها الثاني.

  

الشطر الثاني تجلّى بالتعرّف على أسد الوحدة الطلابيّة الهصور ومنظّرها حينذاك "محمود الزيود" الذي كان يُكمل دراساته العليا (الماجستير) في تخصص الهندسة المدنيّة، أذكرُ ما قاله لي وكأنّه البارحة، بعد أوّل جلسة تعارف: "أنت وينك من زمان"، ولعلّه قالها ولم يكنْ يعلم ما خلّفت من أثر في داخلي! لقد كان المتكلّم والخطابي البارع، صاحب حضور مُرعب وبرّاق أيضاً، تجدُه في أيِّ مجلس متقلّداً زِمام الأمور، ليسَ عُنوةً، وإنّما طوْعاً، ينطبق عليه قول إمامنا الشافعي: "فلعلّ يوماً إنْ حضرتَ بمجلسٍ كنتَ الرئيس وفخر ذاك المجلسِ"، أخذتُ منه الكثير، فهو المثقّف الذي يملك قدرة الحديث في أيّ مسألة وبعيداً عن التسطيح! ناهيك عن توغلّه في قضايا فلسطين ووعيه الحقيقي لألاعيب السياسات الحاصلة في المنطقة فيما يخصّ القضيّة، ولم يقتصر الوعي المُكتسب من خلاله على الثوريّة وفلسطين، ولكنّه سلكَ مجالاتٍ عدّة، الأمر الذي جعلني أنْ أنظر بعينٍ أخرى لتحديّات هذه الحياة، وجعلني أحدّد ما أريد وأنْ آخذَهُ وإنْ كان في فمِ الأسد، ولطالما كنتُ مشوشّاً ومتخبّطاً لا أدري ما أُريد! وقد وجدتُ ضالتي في شخصيّة هذا الرجل.

 

لم أخضْ في انتخابات مجلس الطلبة كثيراً، إذْ أنّ هدفي ومبتغاي كانا ينصبَّان في إيضاح وتحقيق رسالة "الوحدة الطلابيّة" ومحاربة حملات التشويه ضدّها! وقد كانت حملات شرسة تضربُ من كلِّ جانب، وتَطالُ جميع أعضائها، وعندْ مرحلة معيّنة لم أكترثْ بما يُحاك في الخفاء ضدّها، وبقيتُ أعمل من موقعي، مليءٌ بالحماس، وأحسُّ بالنشوة من حينٍ لآخر، جرّاء ما أُقدّم من وعي عن قضيتنا وعن تاريخها، ورفيقي على الدوام هو "محمد حجاز"، ومحمود الزيود كان صاحب النُصْح ألتقي به من حينٍ لآخر، أنهل منه قدرَ الإمكان من تجارب عايشها إبّان عمله الطلابي، وليتني عرفته أكثر، فلم ألبث إلّا القليل وقد مضيتُ في طريقي تاركاً الوحدة خلفي لأسباب كثيرة سأذكر بعضاً منها لاحقاً.

 

جُملة القصور البشريّ تَكمُن في التحيّز، فأنا المتحيّز لفلسطين، والمتحيّز لتاريخ مليء بالعمالقة، الذين قدّموا الغالي والنفيس، وحزينٌ على ما آلت إليه! وأتمنّى عودةً لجميع الفصائل لإحياء الفكرة في زمنٍ كَثُرَ فيه التجافي

قبلَ الشروع بذكرِ أسباب التحوّل، سأعرّج قليلاً على ثالثِ بصمة، ألا وهي "عنان بشير" وقد كانَ يلقّب بمحمود درويش كليّة العلوم، الراقي، الأنيق، والمثقّف عنان، والذي بفضلِه تعمّقتُ في عالَمِ محمود درويش، ومستهلّاً هذا العالَمْ بأحد كتُبِه النثريّة "يوميات الحزن العادي" كنتُ قد استعرته من عنان، عنان كان هذا الإنسان الشغوف، والغيُور على العمل، تلمس فيه الصدق من خلال كلمتين وفي أوّل لقاء، اقتباسات درويشيّة تخرج من فمه! مُجالسته أشبه بسماء واسعة لن تحيط بها بالمرّة، هؤلاء هم أبطال هذه التجربة، وتَرِكتُهم باقية، وأعتبرها نقطة تحوّل مفصليّة في حياتي، وقد كان لا بدَّ من عرضها ولو بشيءٍ من التفصيل، لأنّ الوعي الفكري وتضارب الأفكار والعقول أشياء يعوّل عليها وتبقى ما بقي النّْفَس.

 

أصبحتْ بعض المصطلحات "كعلمنة الثورة" محطّ مراجعة عندي، وتحوّلت أفكاري إلى أفكار إسلاميّة إلى حدٍّ ما، ومستعيراً الشاعر عادل البعيني، ومستبدلاً كلمة بلادي بأفكاري أقول: "نأيتُ بنفسي عن أفكاري راضياً، وقد كنتُ أرجو أن ألاقي مراديا"، ولم تكنْ هذه المراجعات تمثّل رفضاً بالمطلق، ولكنّها كانت أقرب لعدم التصنيف، وبعبارةٍ أخرى، أصبحتُ معتنقاً لأيدولوجيا المفكّر الحرّ، متأثراً بالمفكّر الشهيد "علي شريعتي" وقدْ أصبحتُ من المدافعين عن ياسر عرفات إنصافاً له، أخوض في نقاشاتٍ مع إسلاميين أعرفُهم، محاولاً أنْ أُزيل الغمّة التي استولت عليهم من ناحية هذا الرجل، ففلسفة تاريخ ياسر عرفات لا تُأخذ بضحالة وتسرّع، وإنّما تحتاج لدراسة عميقة ووافيّة، وأنّ اتفاقيّة أوسلو ليست كما يظنّون! ومنْ أكثرِ ما أعجبني هو ردُّ والدي -حفظه الله- حين سألتُه عن ياسر عرفات، مع العلم أنّ والدي صاحب ميول إسلاميّة، والذي قال: "إنّ التاريخ النضالي لأبي عمار تاريخ حافل ومشرّف، ولا يُنكرهُ إلّا أبله، لم يقرأ بحقّ ماذا قدّم الرجل!".

 

لم أندمْ يوماً على فتحاويتي، فقدْ جنيتُ الكثير من ثمارها، وأيقنتُ من خلالها جوهر الهويّة، هي فتح الفكرة كما يقولون، والسقوط كان في أشخاص ولم يكنْ في الفكرة، والفكرة هي الثورة والتحرير، "فلسطين جزء من الإيمان" كما قال الدكتور الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، أحد الأشخاص الذين حرصوا على الوحدويّة بين فصائل المقاومة ومن أمامه الشهيد أحمد ياسين ومن خلفه الشيخ صلاح شحادة عليهم رحمة الله جميعاً.

 

ابتعدتُ ولم أعدْ أُنعت "بالفتحاوي" كما مضى، ابتعدتُ ولا يزالُ شيئاً منها في داخلي، ولم أستطعْ إقناعَ نفسي بالعكس، ولمَ لا تبقى بداخلي؟ فنُبْل الفكرة يُجبرك على التحيّز، وإنّ جُملة القصور البشريّ تَكمُن في التحيّز، فأنا المتحيّز لفلسطين، والمتحيّز لتاريخ مليء بالعمالقة، الذين قدّموا الغالي والنفيس، وحزينٌ على ما آلت إليه! وأتمنّى عودةً لجميع الفصائل لإحياء الفكرة في زمنٍ كَثُرَ فيه التجافي، وكَثُرتْ فيه التفرقة، ودخلتْ في ضياع، وغابت في وحلِ السياسة، وغابت أيضاً في تصفيات لحسابات شخصيّة، وفتحت مجالاً لصراعات، أصبحتْ فيه المقاومة على الهامش! مما أدّى لظهورِ المدنيين على ساحة المقاومة فهمْ لم ينسوا "أنّ على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.