شعار قسم مدونات

سعودية ابن سلمان أم بلاد الحرمين؟

BLOGS بن سلمان

أربعون يوما مرّت على عمليّة اغتيال الأستاذ جمال خاشقجي، أبشع وأغبى عمليّة اغتيال في التّاريخ، أربعون يوما مرّت دون أن يكرم بدفنه أو يفصح المجرمون عن مآل جثّته، أربعون يوما مرّت دون أن تقام عليه صلاة الجنازة أو صلاة الغائب، أربعون يوما مرّت كأنّها أربعون سنة حبلى بالأحداث والمفاجآت كاشفة عن مكنون عميق لقبح من اقترفوا الجريمة في حقّ جمال وفي حقّ كلّ جمال. أربعون يوما كانت كافية لتسقط ورقة التّوت وينكشف الوجه القبيح لمجرم طالما حاولوا تلميعه. ما جرى كان خطيرا في وقائعه المادّية والأخطر منه ما تمّ من ضرر فادح في المعنى الرمزي لما حدث ولمن قام بما قام به، فما هي الأضرار المادّية والمعنويّة الّتي أحدثته هذه الجريمة الحمقاء؟

خصوصية المملكة العربيّة السّعودية:

إلى جانب الأضرار المادّية المباشرة على السّعودية ومن لفّ حولها وهي جسيمة وفادحة، من انهيار للبورصات وهروب للمستثمرين وفشل ذريع لدافوس الصّحراء ووأد لرؤية 2030 وإهدار لمليارات الدّولارات لتلميع صورة وليّ العهد السّعودي ومحاولة إخراجه من مأزقه، فانّ الأضرار المعنويّة المحدثة كانت أشدّ وأقوى ويصعب جبرها على المدى القريب دون تغيير جذري للمشهد بالكامل. يتساءل بعضهم لم كلّ هذا التّحامل على السّعودية وعلى وليّ عهدها الّذي يعتبر الحاكم الفعلي بحكم الوضعية الصحّية لوالده، أليس شابّا يفتقد إلى التجربة وسيكتسبها مع مرور الزمن ولو بارتكاب بعض الأخطاء؟ ألم ترتكب أنظمة استبدادية وقمعية جرائم تفوق ما ارتكبته السّعودية ونظام بشّار ليس بالبعيد ونظام السّيسي الانقلابي كذلك؟

الغرب البراغماتي لا تهمّه كثيرا المشاعر والأحاسيس وهو يتعامل وفق مصالحه والّتي يراها الآن مهدّدة بوجود شاب أرعن، مندفع، عصابيّ قد يدفع بالسّعودية والمنطقة إلى نقطة حرجة

ثمّ ما الفرق بين هذا الشاب الثلاثيني والزّعيم الكوري الشّمالي كم جونغ أون؟ وهو مثال لدكتاتور شاب، يعيش وكأنّه في كوكب أحرى لتتسرّب إلينا بعض الأخبار الشّحيحة عن ممارساته في حقّ مخالفيه ترتقي إلى درجة الخرافة والأسطورة، فقد سبق له أن سمّم أخاه من أبيه في ماليزيا وصفّى عمّه وبعضا من وزرائه المقصّرين ولم يمنع كلّ ذلك من أن يطلب ترامب ودّه ويسعد بلقائه ويشهد بذكائه وتبقى كوريا الشّمالية حاضرة في مختلف الملتقيات الدّولية، فارضة حدّا أدنى من الاحترام ومتصرّفة وفق قواعد اشتباك شاركت في ضبطها، متحكّمة في درجة ما في مجرياتها. هو دكتاتور شاب مسكون بجنون العظمة لكنّه ذكيّ وله من الدّهاء ما جعله ينتصر في حروب دون أن يخوضها وتحوّل إلى رقم صعب وأمر واقع وجب التّعامل معه. هناك نقاط تشابه كثيرة بين الشّابين واختلاف وحيد يكمن في أنّ احدهما يمتلك عقلا والآخر لا!

لا يمكن إن يقع تقييم لممارسات السّعودية دون الأخذ بعين الاعتبار مكانتها المحورية والرمزية في المخيال الجمعي لملايين البشر الّذين يتّخذونها قبلة ووجهة، فهي ليست كأيّ بلد ولا يمكن أن تتصرّف كأيّ بلد، ومن المضحكات المبكيات أن تخشى من يهينها ويعتبرها بقرة للحلب في حين تدير ظهرها لمن يحترمها إلى حدّ القداسة ويخشى عليها.

السّعودية والغرب:

بالنّسبة للغرب الّذي كان وراء تأسيسها واستمرارها فيرى في استقرار السّعودية مسألة استراتيجية وحياتية بالنّسبة إليه وهو يعني سلاسة تدفّق النّفط ثمّ امتلاء خزائنه بعائداته وذلك ما عبّر عنه ترامب وماكرون في احتفالية باريس مائوية انتهاء الحرب العالمية الأولى: هي مجرّد بقرة حلوب يجب أن تبقى حيّة وعلى قدر أدنى من الصحّة والعافية ما يجعلها تدرّ عليهم حليبها بكلّ كرم ودون توقّف. وقد ثبت بالكاشف أنّ تعيين من يحكم في السّعودية يتمّ في واشنطن أساسا بالتّنسيق مع بعض العواصم الغربية ولا يتطلّب المرشّح من المؤهّلات إلّا أن يكون أمينا على مصالح من نصّبوه. هكذا عرّت لنا جريمة اغتيال خاشقجي واقعا مرّا بأنّ فلسطين ليست وحدها المحتلّة بل كلّ شبر من أوطاننا العربية هو كذلك بدرجات متفاوتة. وكأنّ معركة الاستقلال الحقيقي لم تبدأ بعد.

الغرب البراغماتي لا تهمّه كثيرا المشاعر والأحاسيس وهو يتعامل وفق مصالحه والّتي يراها الآن مهدّدة بوجود شاب أرعن، مندفع، عصابيّ قد يدفع بالسّعودية والمنطقة إلى نقطة حرجة تجعل الوضعية خارج السّيطرة وهو ما يدفعهم إلى التّفكير جدّيا في إيجاد بديل له يمتلك بعض العقل وحسن التصرّف.

السّعودية والمسلمين:

بنقيض هذه العلاقة النّفعية المادّية البحثة والتّبعية الصّارخة بين السّعودية والغرب المهيمن فانّ علاقتها مع الشّعوب العربية والإسلامية اتّخذت صبغة معنوية صرفة وفي جانبها المادّي كانت ضررا بالكامل خصوصا مع صعود نجم ابن سلمان. فالسّعودية انخرطت في حرب عبثية على اليمن حوّلته من اليمن السّعيد الى موطن أسوا كارثة إنسانية في التاريخ الحديث وهي من قادت حصارا على بلد شقيق لم تحقّق من خلاله سوى إحداث شرخ عميق في النّسيج المجتمعي الخليجي يصعب رتقه في المدى القريب على الأقلّ وهي من ساهمت في تقديم العراق على طبق من ذهب لإيران وعطّلت مسارات الانتقال الدّيمقراطي في ليبيا وتونس في حين دعمت الانقلاب المصري بكلّ قوّة ولم تخف ابتهاجها بالمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا.

ولا ينفع أن يقال بأنّها واقعة تحت تأثير غواية بعض أصدقاء السّوء فهي مسؤولة مسؤولية مباشرة إلاّ إذا اعتبرناها قاصرا أو مرفوعا عنها القلم. والغريب أنّه مع كلّ هذا الضّرر المحدث للمسلمين بأيد من يدّعون أنّهم يرفعون راية الإسلام يتهجّم عليك بعضهم مفرغين شحناتهم من البذاءة والعنصرية والعنف: ما دخلك أنت؟.. يا مشرّد.. يا عرب الشّمال.. يا مرتزق.. يا أمازيغي.. يا خلايا عزمي.. اهتمّ ببلدك المخرّب.. اهتمّ بكظيّتك.

كان لداعش السّبق في ضرب البعد الرّمزي لمعتقدات المسلمين وتشويه الإسلام وهي كصناعة مخابراتية نجحت في أن تجعل راية التوحيد تهمة يتبرّأ منها الجميع
كان لداعش السّبق في ضرب البعد الرّمزي لمعتقدات المسلمين وتشويه الإسلام وهي كصناعة مخابراتية نجحت في أن تجعل راية التوحيد تهمة يتبرّأ منها الجميع
 

كيف لا يكون لي دخل وأنا المفترض مسلما ومثلي الملايين يتوجّهون إلى القبلة أكثر من خمس مرّات في اليوم؟ كيف لا تكون محور اهتمامي وأنا اقرأ من القرآن الّذي نزل هناك وأتّبع رسولا مبعثه هناك وأبغي أن أختم عملي بحجّ إلى هناك؟ كيف لي أن أحجّ إلى مكان ومن سيكون راعيا له يكذب، يقتل، يمثّل بالجثّة ويذيبها بالأسيد ويمنع إكرامها بالدّفن؟ كلّ الضّرر المادّي الّذي وقع نتيجة لجريمة اغتيال خاشقجي وكلّ الجرائم الأخرى لا يمثّل شيئا أمام الضّرر الحاصل في البعد الرّمزي، فكيف لأحدنا أن يصلّي خلف السّديسي وكيف له أن يؤمّن على دعائه وهو يدعو لمجرم قاتل؟ وكيف لأيّ كان أن يصدّق كلام "المتشيّخين" المتعالمين أو أن يأخذ بنصائحهم أو فتاويهم؟

كان لداعش السّبق في ضرب البعد الرّمزي لمعتقدات المسلمين وتشويه الإسلام وهي كصناعة مخابراتية نجحت في أن تجعل راية التوحيد تهمة يتبرّأ منها الجميع وشعار التكبير نداء للقتل والذبح وعلى نفس المنهج قام فريق اغتيال خاشقجي بما قام به من فظاعة تحت سقف قنصلية ترفع علما يحمل شعار التوحيد وقد شاهدنا أحدهم يخرج منها مبتهجا وهو يتوشّحه مع فارق وحيد كونهم لم يكبّروا على ما يبدو حين قطعوا رأس الشهيد بل كانوا يستمعون إلى الموسيقى ولم يسجدوا حين إتمام فعلتهم بل كانوا يقرعون الكؤوس ويدخّنون.

تحظى السّعودية بمكانة مميّزة لدى عموم المسلمين ترتقي إلى مستوى القداسة باعتبارها بلاد الحرمين، ثاني القبلتين، مهبط الوحي وهي أعظم وأسمى من أن تتقوقع في قمقم الدّولة القطرية المجرّدة من كلّ خصوصية، فهي محورية وبالأهمّية الرمزية لدى الملايين وستبقى مركز اهتمامها مادامت الجباه تركع في اتّجاهها والأفئدة متعلّقة بها والعيون تدمع اشتياقا لزيارتها. والقائمون عليها أمام خيارين لا ثالث لهما إمّا سعودية ابن سلمان أو سعودية بلاد الحرمين؟ حفظ الله بلاد الحرمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.