شعار قسم مدونات

هل امتلاكنا للأشياء الجديدة يجعلنا أكثر سعادة؟

blogs التسوق

أعتقد أن ظاهرة الاستبدال الموسمية قد أصبحت عندنا عادة، بل وربما أصبح لا يستغنى عنها الآن، كانت في البداية ثقافة موسمية، تقتصر على الأعياد مثلا، وبعض المواسم الأخرى، لكنها تفشت وغدت اليوم مستشرية، حتى بين عموم الناس، وغدت تتخذ مظاهر جديدة، فمن الملابس، إلى الأدوات الإيليكترومنزيلة، الهواتف، وغيرها، بل والغريب أنها أخدت نفس الشكل الذي كان سائدا في الضفة الأخرى، مادام أنها أصبحت عامة وشاملة، فإنها ارتبطت بالضرورة ببداية العام الجديد، هذا يجعلنا نطرح سؤالا بسيطا لكن يبدوا لي أنه عميق ومهم في نفس الآن، وهو هل اقتناؤنا للأشياء الجديدة يجعلنا أكثر سعادة؟ بل وهل فعلا امتلاك المزيد من الأشياء يجعلنا نغدوا أكثر سعادة كما نتصور لأول وهلة؟

علاقة الأشياء بالسعادة، أعتقد أنه موضوع فلسفي عميق، لكن ما يهمني منه هو الجانب التثقيفي التوعوي، وليس الجانب المعرفي والعلمي، بداية يمكننا الحديث عن علاقة الإنتاج بالاستهلاك، وهذا مسلسل طويل، ويبدوا أنه لم تنفذ حلاقاته بعد، يتحدث بهذا الصدد المسيري عن الإنسان المعاصر، أو الإنسان المعولم، ويصفه بأنه غدى مشيئا، أي من كثرة استهلاكه واقتنائه غدت الأشياء هي التي تتحكم فيه، بدل العكس. لكن هل فعلا اقتناء الأشياء الثمينة تجعلنا أكثر سعادة، أم أنهم أوهمونا أن اقتناءها يجعلنا أكثر سعادة، بعيدا طبعا عن الجدل الدائر حول تحديد مفهوم السعادة، وعلاقتها باللذة، والرفاهية، والجشع… الخ، أعتقد أنه لا ينكر عاقل أن الساعدة هي نتاج داخلي، أي انفعال ناتج عن أمر ما، وليس بالضرورة أن يكون متوقفا على امتلاك شيء ما، بل قد يكون في إعطائه بدل امتلاكه.

بغض النظر عما نملك أو لا نملك، إذا تأملنا ذواتنا وأحوالنا وراقبنا تصرفاتها، فإننا نجد أن أجمل لحظات السعادة، هي التي نكون فيها أكثر بساطة، قد تعترينا من خلال تقديم مساعدة ما، أو من خلال جلسة مع من نحب، أو لمجرد رؤيتهم أو تذكرهم، وهناك حالات كثيرة أخرى، لكن المهم هو أن سعادتنا لا نستطيع أن نجعلها رهينة امتلاك شيء معين. فعلى سبيل المثال كل واحد منا لطالما حلم بأن يمتلك شيئا ما، لكن ما إن تمض أيام قليلة إلا ويتحقق حلمه، وعندما يمتلكه ربما سيدرك أنه لم يكن بتلك الصورة التي كان يتخيلها، أي أنه لم يمنحه ذاك الشعور المتخيل في ذهنه والتي كان يطمح أنه سيحققه له، أي أنه بعبارة أخرى لم يستفد من هذا الشيء إلا بقدر الحاجة إليه.

علماء النفس اكتشفوا أمرا، كان قد سبقهم إليه الفقهاء وعلماء الدين وهو أن النفس الإنسانية لا تشبع، أي أنها كلما أعطيتها إلا وتمددت وطالبت المزيد

مع بداية العام تجد الناس يقتنون كل ما هو جديد، هواتف، حواسب، ملابس، الخ، رغم أنك تجد أنهم يملكون ما يجعلهم في غنى عنها، أي ما يلبي حاجاتهم بدونها، لكنهم فقط يستهلكون لأجل الاستهلاك، لا أقل ولا أكثر، رغم أن ما اقتنوه السنة الفارطة من أدوات لا زال يغنيهم ويلبي حاجاتهم، لكنه ربما لم يعد يشبع رغباتهم الطامحة دوما للجديد، أي الاستهلاك من أجل الاستهلاك، وهذا طبعا تتحكم فيه عدة أمور لكني أعتقد أنها أمور نفسية بالدرجة الأولى. دوامة الاستهلاك والاستبدال لا خلاص منها، بل هي طريق تؤدي بدون رجوع، لكن المفزع فيها هي عمومها كما ذكرت، أي أنها أصبحت سائدة بين جميع أطياف المجتمع، بل وربما تكون الطبقة المسحوقة، هي الأكثر امتثالا لهذا الأمر، رغبة منها في التخلص من عقدة الحرمان، أو الشعور بالدونية.

هناك مقولة مشهورة لعمر رضي الله عنه، اعتبرها العلماء قاعدة أساسية في الاستهلاك، وهي قوله لجابر رضي الله عنه" أوكلما اشتهيتم اشتريتهم" هذه القاعدة تلخص فقه عمر لمفهوم الاستهلاك في الشريعة الإسلامية، أي أن الاستهلاك يكون بقدر الحاجة، وليس الاقتناء يكون من أجل تلبية رغبات النفس، فكم مرة اقتنينا أشياء كثيرة بدون الحاجة إليها، فقط نقتني من أجل الترف، أو نقتني لأننا مهووسون بالاقتناء، حتى أنه يغيب علينا قضية ما مدى حاجاتنا إلى ما نقتني.

يقول المسيري رحمه الله، أن علماء النفس اكتشفوا أمرا، كان قد سبقهم إليه الفقهاء وعلماء الدين وهو أن النفس الإنسانية لا تشبع، أي أنها كلما أعطيتها إلا وتمددت وطالبت المزيد، غير أن علماء الدين اعتبروا هذا الأمر نكبة وبالتالي فهم كانوا دوما يحذرون منه، لكن علماء النفس اعتبروا أن هذا فأل خير على ازدهار الاقتصاد، ومن ثم ركزوا على الاشهار والتسويق للمنتوجات في البلدان التي يودون السيطرة عليها، فبدل ارسال الجيوش من أجل الإتيان بالمال، يكتفون بتصدير الأفلام والإشهارات، فهي كافية لاستنزاف كل الأموال التي يودون الحصول عليها.

طبعا للمسيري في هذا الجانب كلام طويل ورائع، لمن يود الاطلاع عليه، وهو كان يشير إلى الحديث النبوي الذي في جزء منه "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب"، الشريعة الإسلامية، حددت مفهوم الضروريات، والحاجيات، وهناك التكميليات، أو التحسينات، وهي بذلك خلقت توازنا في حياة الفرد، وهذا يجعلنا نفهم أمرا مهما في حياة الفرد، وهو أن الأشياء تتغير أحكامها بحسب حاجة الناس إليها، فهي تنتقل من الضروري إلى الحاجي، أو إلى التحسيني التكميلي، بل وقد تصل حتى إلى الحرام إذا انقلبت إلى ضدها! يا ليتنا نستحضر هاته المسائل، في كل مرة نقدم على اقتناء أمر ما، ونتذكر أن سعادتنا تكمن فيما مدى تلبيتنا لحاجياتنا المادية والروحية، وليس فيما مدى امتلاكنا للأشياء الثمينة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.