شعار قسم مدونات

قفصُ العَذارى

blogs امرأة

كانت نصفِ حَلقة، وكُنت أحلِّقُ "خارج السّرب"، أفكّر في قفصِ العذارى، ذلك الحيّزُ المُضاد للعقل والحريّة، أين تسبحُ أرواحُ أجسادٍ خاوية، وتُعزفُ على أوتارِ التعصُّب وتحت مسمّى الإسلام مختلف أشكال الاستبداد والدونيّة، مُعلَّلَةً بظاهر (النصّ)، دون بذل أدنى جُهدٍ في إعادة قراءة الأصول وتأويلها. أُحاول تجميع القطع، أستحضر ما مضى، ما حضَر، وما قد يكون، أحاولُ الإلمام بما عايشته من وقائع وما مرّ عليّ من تناقضات، ما كان يستفزّ عقلي فيجعله معلّقًا بألفِ سؤالٍ وسؤال، ألملمُ الأحداث، الصّور، العقليّات، والفروقات.. كطائرٍ يُلملمُ القشّ ليبني عُشّه شيئًا فشيئًا، على أساسٍ متين.

 

أتأمّل واقع النّساءِ من حولي منذُ أدركني الوعي، أغرقُ في سؤالٍ فيشدّني تياره إلى آخر: كيف لبيتٍ واحدٍ أن يشكّل أبناءً بأفكارٍ وسلوكيّاتٍ مُتناقضة تمامًا، مع أنّهم عاشوا في نفس الوسط وتلقّوا نفس التربية؟ ما الذي يجعُل من أحدهم أبًا متسلّطًا متجبّرًا لا يشارك أبناءه طاولة الطّعام ولا الأحاديث ولا الضّحكات، يمنعُ عن أهل بيته نور الشّمس من النّوافذ، ويحرم بناته من المدارس في سنّ الطّفولة، في حين تجد الآخر مُمازحًا مُداعبًا، يمنحهم المساحة الكافية لممارسة ذواتهم بكلّ حريّة؟ أحاول الإجابة بشكلٍ سطحي، فتنتشلني وقائع وحقائق لأمثلةٍ عايشتها، تخز عقلي لأدرك مدى تفاهة تلك الإجابات التي راودتني بالنظر إلى واقع سلوك الأبناء وما ينجم عن تلك الاختلافات الفكريّة في تكوينهم.

 

لا بدّ وأنّ الأسئلة كثيرة ومتشعبة، والأمثلة أكثر وأوسع وأعمق، وأشدّ قسوة وأبشع تصويرًا، نصادفُها في حياتنا اليوميّة ضمن أقاربنا، عائلاتنا أو محيطنا. والإجابة عن هكذا أسئلة تتطلّبُ غوصًا وبحثًا عميقًا في التركيبة النفسيّة للمجتمع -ولستُ بصدد ذلك اليوم على الأقل-. ممّا لا شكّ فيه أنّ الحداثة الغربية ولّدت حراكًا إنسانيًا عميقًا في كل أرجاء الكون، فأدرك معاقل المجتمعات التقليدية والإسلاميّة أيضًا مثلما أدرك غيرها، وبسببه أثار فريقٌ من رجال التنوير أسئلةً حول المرأة وحريّتها، وعلاقة ذلك بالإسلام وتعاليمه وأحكامه، تلك الأسئلة التي ما لبثت المرأة أن استأنفتها وأثارتها بدرجاتٍ متفاوتة، منها ما وُضع بموضوعية وعقلانيّة، ومنها ما أُثير بحدّةٍ ورفض وتمرّد ليشكّلن تيارًا نسويًا رافضًا.

 

من هذه المظاهر التي لا تمتّ للدين بأيّة صلة يبدأ الإلحاد، والذي يعتبرْنه عبثًا "أداةً بديلة" لخواء الماضي وصدماته وإخفاقاته، ليُعززن به وجودهنّ في العالم

في مُدننا، مُدن الإسلام المُعَولم، ورغم كلّ ما طالها من حداثة وتحرر من قيود التقاليد والمجتمع، والجهل والتخلّف، فاتسعت بذلك مساحة الحريّة التي تشغلها النّساء، فما عدنا نرى لها حدودًا مقارنة بأزمنةٍ خلت، إلاّ أنّها ما تزال تُخفي في ذلك القاع البعيد، خلف الجُدران والأبواب الموصدة، بين ثنايا ذاكرة الكثيرين والكثيرات، في قلوبٍ تشرّبت الاستعباد والذل وطاقت لتنال بصيص الحياة كحقّ بسيط مثلها مثل الجميع، مظاهر رهيبة من الجهل ينفر المرء منها، يقفُ الواحد منّا أمامها مدهوشًا، أين يصطدم مع ذلك الواقع البائس الذي مازال يطوّقُه الفهم المحدود والتصوّر النمطيُّ السّائر للدين.

 

هو تصوّرٌ قاصر، يجعلُ من المرأة كائنًا غير مصنّف ومجرد من أغلب الحقوق، ضمن عادات وتقاليد بالية لا تنفع، ووفق تأويلٍ مغلوطٍ للآياتِ والأحاديث، مهانةٌ من قبل الرجل (أب/أخ/زوج) ومقيدة بأغلاله في ظلّ (القوامة)، ومحاربةٌ كذلك من قبل المجتمع! فهو يحاول بغروره وتعسفه أن تكون نصف روحٍ، مجهولة الهوية، بدل من أن تكون نصف المجتمع! فباسم الدين تُجرح نساء وتقصم ظهور أخريات، باسم الدين تُجبر امرأة على الزواج من رجل تتقزز منه (تحت مسمّى ليس بعُذرٍ شرعي)، فتصبح ملزمة على العيش معه، مظاهرُ الطلاق، العنف المنزلي، الزواج السّري، الختان وما يصاحبه من استئصال أجزاء من الأعضاء التناسلية الجنسية للمرأة، رجل لا يكاد يكلم زوجته، قواعد المجتمع الأبوي الذي يجردهن من حرياتهن الفردية ويردهن إلى ماضٍ أسطوري، إلى العقلية القبلية، تلك النظرة الضيّقة لدور المرأة التي تقتصر على وظيفة واحدة هي الإنجاب وطاعة الزوج، صورة الضبط الكامل لحركاتها واتصالها بالعالم الخارجي، أبٌ مستبد يطارد ابنته حول الدّار وبيده سكّينٍ، وأمّ تعمل في شركة طيرانٍ فلا تعلم عن حالها أبنائها شيئًا… والكثير الكثير.

 

إنّنا نظنّ أنّ هذه المظاهر قد تلاشت، لكنّ الواقع غير ذلك، وأكثر ما ينفطر له القلب، مشهدُ فتيات تُسرقُ منهنّ الطفولة في سنّ مبكّرة، يُمنعن من المدارس خوفًا من العار وحفاظًا على الشّرف من يُلوّث، أن ترى دموعهنّ وتوسّلاتهنّ لمتابعة مسارهنّ الدّراسي ككلّ فتيات جيلهنّ، أن يحلمن ويرسمن آمالهنّ وتطلّعاتهنّ للمستقبل: سأكون مهندسة، طبيبة، أستاذة، رسّامة… لكن ليس لتوسّلاتهنّ في القلوب وقع، فيُدفنَّ في "قفص العذارى"، ثمّ يجدن أنفسهنّ مرغماتٍ على الزواج في سنّ الخامسة عشر أو ربّما أقل.. تموت في قلوبهنّ كل معاني الطفولة، تلك البراءة، الضّحكة، اللهفة، الآمال والشّغف، باسم الدّين!

 

من هنا يمكن لأية فتاة أن تعلن التمرّد على كل مسميات الدين، لتتحرّر من قيود الزوج والأب والأخ وكلّ رجل شرقي، لتفرّ من قفصِ العذارى، من هُنا يمكنها ألا تطيع الله أبدًا بعد اليوم! من هذه المظاهر التي لا تمتّ للدين بأيّة صلة يبدأ الإلحاد، والذي يعتبرْنه عبثًا "أداةً بديلة" لخواء الماضي وصدماته وإخفاقاته، ليُعززن به وجودهنّ في العالم، ذاك الوجود الذي انهار انهيارًا تامًا في منابعه الأصليّة، منبع العائلة حيثُ الحبّ والعطف، ومنبع الوطن الغارق في الجهل والاستبداد والفقر، ولم يبقى لهنّ إلاّ أمل المستقبل.

سجن النساء حفظًا للشرف لا يجلب الإحباط واليأس لهن فقط، وإنما ما يترتّبُ عنه من مشاكل نفسيّة ومن عُقد، يولّد أيضًا تخلفًا اجتماعيًا لكل الطبقة الاجتماعية التي ستشكلها لاحقًا
سجن النساء حفظًا للشرف لا يجلب الإحباط واليأس لهن فقط، وإنما ما يترتّبُ عنه من مشاكل نفسيّة ومن عُقد، يولّد أيضًا تخلفًا اجتماعيًا لكل الطبقة الاجتماعية التي ستشكلها لاحقًا
 

ومن هذه المظاهر يتصيّد فريق التيار النسوي وغيره الإسلام لمهاجمته، والتي ما هي في حقيقتها سوى هجومات تصدر عن عقل وجداني مأزوم مرتدٍّ على التراث والماضي، تقوده نساءٌ يعانين إصابة في العقل الوجداني، مبدؤها صدمات الطفولة وخبرات الإساءة المبكّرة، وسوء إدارتها التربوي. هجومات تطال حقيقة الثقافة المشخصة لا الدين في ماهيته الروحيّة والعقليّة، وتتعلل بنظرة نسبية جاحدة للمطلق الإلهي، وطبعًا تنتهي إلى الزعم بأنّ الإسلام لا يتوافق مع حقوق الإنسان، وأنه يُنمّي عقليّة قروسطيّة قائمة على مفاهيم القبيلة والشرف والعار والخوف…  لا على عقليّة التسامح والسلام.  

 

إنّ آفات قفص العذارى هذه لا تقتصر على النساء وحدهن، وإنما تطال أيضًا الرجال والأطفال وجملة الثقافة الإسلامية، فسجن النساء حفظًا للشرف لا يجلب الإحباط واليأس لهن فقط، وإنما ما يترتّبُ عنه من مشاكل نفسيّة ومن عُقد، يولّد أيضًا تخلفًا اجتماعيًا لكل الطبقة الاجتماعية التي ستشكلها لاحقًا، فيستفحل الجهل وينتقل منها من جيلٍ إلى آخرٍ، ناهيك عن الخوف والشك والكذب وعدم التقدير الذي سيطال الهيئة الاجتماعية برمتها وسيعمق أحوال التخلف فيها.

 

علينا إخراج مظاهر هذا "التدليس باسم الدين" إلى دائرة الشفافية والضوء لرؤيتها عِيانًا وللتحقق من أصولها ودلالاتها ومسوّغاتها، ومن قيمتها أيضًا، والتي لا ينفع فيها إطباق الجفنين عنها وإغفالها، ولا منهج الاتباع التقليدي السادر، فمنهج إعادة القراءة والتفسير أو التأويل (من أهل العلم والفهم السّديد طبعًا فهو ليس بأمرٍ هيّن يتسلّمه كل من هبّ ودبّ، ليكون حرًّا في تأويله وفي جعله موافقًا للعصر الحديث) هو المنهج الهادي السّديد في مقاربة قضايا ومشكلات الإسلام نفسه اليوم، وغدًا.

 

هي نصفُ حلقة، أُغادرها أنّى شئتُ دون تحديدٍ ولا تضييق، بحريّة مُطلقة، لاغترف من العلم متى شئت وأينما أردت، لأعبّر عن رأيي وأشكّل ماهيتي البسيطة، لأمارس ذاتي بكلّ ثقة، لأحلّق خارج السّرب بقلبٍ يشتعلُ حماسةً وإيمانًا، دون الحاجةِ للتّوسّل ولا لرفعِ أعلامِ التنوير! تلك الأعلامُ التي ترفعها نسويّات الرّفض انتقامًا من ماضي وجداني مأزوم بحثًا عن الحريّة، لكن عن أيّة حريّة يبحثون؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.