شعار قسم مدونات

هل حقا باع أردوغان قضية جمال خاشقجي؟!

blogs أردوغان

كما كان متوقعا دخلت قضية جمال خاشقجي متاهة الشد والجذب، وتحولت إلى شبه رواية مملة، فمرتكب الجريمة نعرفه مسبقا، ورواية الجريمة الغامضة التي تجعلنا على أعصابنا ونحن نقرأ أحداثها هي التي تكشف القاتل في نهايتها بطريقة مبهرة وغير متوقعة، أما وقد عرفنا منذ اليوم الأول من قتل خاشقجي فإن تتبع الأحداث بعد ذلك أصبح أمرا مقززا.

على شاكلة باقي الجرائم السياسية، فالمصلحة غالبا ما تكون الدافع الأول للجريمة، ومصلحة السعودية هي في إسكات صوت خاشقجي، ذاك الصوت القوي الحر الذي زحزح أركان الفساد فيها، غير أن الجريمة السياسية على وجه التحديد لا يستفيد منها مرتكبها فحسب، بل تتنافس حولها أطراف عديدة تريد أخذ نصيبها من الكعكة، ولا شك أن تركيا كانت المستفيد الأكبر من اغتيال خاشقجي خصوصا وأن الجريمة نفذت على أرضها وبالتالي فهو انتهاك صارخ لسيادتها، زيادة على أن العلاقة بينها وبين السعودية ليست على ما يرام بالنظر إلى ما آلت إليه الأحداث في سوريا والعراق واليمن.

 

غير أن أردوغان عرف من أين تؤكل الكتف، وعرف كيف يستغل القضية بالطريقة التي تؤمن له منافع عدة، وتدفع عنه بوائق عديدة، فالقضية بدأت إنسانية محضة، والكل تعاطف مع مقتل الصحفي خاشقجي كون الجريمة في حد ذاتها تحديا صارخا في وجه الكلمة الحرة، فذرفت الدموع وتعالت الصيحات المنددة وسال حبر كثير حولها، وطالب العالم بالثأر من القتلة والانتقام لدم خاشقجي، وشاهدنا كيف أن جمال دخل إلى القنصلية ولم يخرج منها، وشاهدنا أيضا صور كتيبة الاغتيال التي اتهمت بتنفيذ العملية، وأخبار تقطيع الجثة بالمنشار وإخفاءها والعديد من التفاصيل الأخرى.

انتقلت القضية من منحاها الإنساني الذي يصبو إلى تطبيق العدالة وإبراز الحقيقة إلى منحاها السياسي المحض، فتبدأ بالتالي المساومات والاتفاقيات التي لا يسمع بها أحد

هذا هو السيناريو الذي عايشناه في بداية الأزمة، إلا أن خطاب أردوغان كان هو الحد الفاصل الذي رسم معالم القضية، فالكل كان ينتظر خطابا تاريخيا يكشف خلاله رئيس دولة جريمة ارتكبت على أرضه بالصوت والصورة، والعديد من المتتبعين والمحللين كانوا يعتقدون من أن أردوغان بمساعدة المدعي العام التركي على سبيل المثال سيقوم بشبه عرض يستعرض فيه حيثيات الجريمة ويكشف أمام الملأ عن الفيديوهات والتسجيلات التي تحدث عنها الإعلام التركي بشكل مكثف، وهذا كله يبقى من حقه لأن الجريمة ارتكبت على أرضه وهددت أمن دولته، وقد رأينا كيف أن أمريكا وغيرها تعرض للعالم أجمع أدلتها بالصوت والصورة بمجرد أن تتعرض لعمل إرهابي يهدد أمنها، ثم توقعنا بعد ذلك أن يرمي أردوغان الكرة في ملعب المنتظم الدولي ليتحرك ضد الجناة بعد أن عرضت عليه كل الأدلة القاطعة التي لا تترك مجالا للتنصل منها، لتؤدي بذلك تركيا دورها على أكمل وجه.

 

دور يفرضه الضمير الإنساني وحقوق الصحفي المغتال، إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل، ليبدو الخطاب سياسيا بامتياز، ولتنتقل القضية من منحاها الإنساني الذي يصبو إلى تطبيق العدالة وإبراز الحقيقة إلى منحاها السياسي المحض، فتبدأ بالتالي المساومات والاتفاقيات التي لا يسمع بها أحد، وما الإفراج عن القس الأمريكي وتحريك الأسطول التركي في المياه القبرصية إلا بوادر عن هذه الاتفاقيات المتمخضة من رحم القضية.

 

وبالتالي فحديث أردوغان على أنه يريد إظهار الحقيقة للعالم وكشف الجناة إلا تملقا ودهاء سياسيا منه، والحقيقة أن تركيا لا يهمها لا خاشقجي ولا هم يحزنون، وأن الدموع التي تذرف في الظاهر ليست لسواد عيون خاشقجي أو لشدة التأثر من الطريقة المأساوية التي صفي بها، ولكن لمصالحها الكبيرة من وراء هذه الأزمة، وأعتقد أن التعامل مع الأمور بهذا الشكل هو من حق أردوغان بطبيعة الحال، وأن كل دولة ملزمة أن تضع مصالحها العليا في أعلى المراتب والأولويات، غير أن الثمن الذي يدفع في مثل هذه المواقف هو ثمن إنساني فادح بكل المقاييس، ويا حبذا لو كانت المصلحة العليا للدولة تنعكس إيجابا على الشعوب، ولا تكون الشعوب نفسها هي المقابل لهذه المصلحة الشخصية كما نرى اليوم في سوريا ورأينا من قبل في ليبيا وتونس ومصر إبان الربيع العربي.

 

رجل السياسة مهما كانت طينته فهو ملزم بأن يختار في عمله بين طريقين اثنين، طريق الإنسانية التي تجعل الإنسان مهما كانت خلفيته أولى أولوياته رغم صعوبة التحديات، وطريق السياسة المزينة بأكاليل الأشواك
رجل السياسة مهما كانت طينته فهو ملزم بأن يختار في عمله بين طريقين اثنين، طريق الإنسانية التي تجعل الإنسان مهما كانت خلفيته أولى أولوياته رغم صعوبة التحديات، وطريق السياسة المزينة بأكاليل الأشواك
 

وسواء قلنا أن أردوغان باع القضية أم صمتنا إلا أن السياسة هنا تفرض نفسها بشكل كبير، وإذا كانت السياسة تغطي جوانب مضيئة قد تصب في مصلحة طرف ما إلا أن الجمع بين السياسة والإنسانية ومحاولة لعب أدوار طلائعية أقرب إلى المثالية في هذا الشأن هو بهتان عظيم وضحك على الذقون، وعلى مر التاريخ كان السياسيون يتوددون لشعوبهم ويعدونهم بالتوسع وجلب الثروات، ولكن في مقابل ذلك كانوا يرتكبون المذابح والمجازر في حق الإنسانية ويدخلون في حروب طاحنة ويضربون كل أعراف الرحمة والمساواة عرض الحائط، بالضبط كما حصل مع النازيين الألمان والسود في أمريكا والعبيد في اليونان القديم.

 

وفي السياسة العربية هناك العديد من المواقف التي تجردت من الصفة الإنسانية لتلبس ثوب السياسة المنافق، والحاصل في مثل هذه الأحداث أن يتحمل طرف ثانوي كل أثقال التهمة وكأنه المخطط والمنفذ الوحيد ليخرج الرأس المدبر منها بريئا براءة الذئب من دم يوسف، بل قد يشارك شخصيا في عملية التحقيق وكشف ملابسات الجريمة، وهذا بالضبط ما تنهجه السعودية اليوم، واتضح كذلك تسييس القيادة الليبية لقضية لوكربي عندما وافقت في صيف 1998 على صفقة لتسليم المتهمين فحيمة والمقرحي بوساطة من الحكومة السعودية ونلسون مانديلا، كانت صفقة التسليم هذه في مقابل عدم التعرض للنظام الحاكم أو رموزه، وخاصة العقيد القذافي شخصيا.

 

وكما يحدث اليوم من تسليم للمقاومين الشرفاء إلى آلة القتل في النظام السوري في صفقات سياسية باطلة، بدعوى تمكين المهجرين من العودة، والحقيقة الواضحة التي تكاد تفصح عن نفسها هي أنه وبمجرد عودة الأهالي تبدأ آلة التقتيل بتصفيتهم بعد تصفية المقاومين الأبطال الذين ما حملوا السلاح إلا لحمايتهم وصون أعراضهم، والعديد من الأحداث الأخرى التي تبين أن رجل السياسة مهما كانت طينته فهو ملزم بأن يختار في عمله بين طريقين اثنين، طريق الإنسانية التي تجعل الإنسان مهما كانت خلفيته أولى أولوياته رغم صعوبة التحديات، وطريق السياسة المزينة بأكاليل الأشواك ومواقف النفاق وأصوات المصلحة، فيدوس قلبه ومثله ومبادئه في سبيل الوصول عبرها إلى هدفه المنشود. ويبقى عزاء جمال خاشقجي الوحيد هو قلمه الذي سيبقى وفيا للصوت الحر، وسيورث من بعده إلى أجيال متعاقبة حرة تعرف قيمة ما تحمله من أمانة غالية قد تدفع عمرها ثمنا لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.