شعار قسم مدونات

الخطاب الذي قَتلَ صاحبه!

blogs خاشقجي

نشرت غرفة تحرير أخبار صحيفة واشطن بوست يوم السابع عشر من أكتوبر، مقالة دون تمريرها في عملية التحرير التقليدية والتي تتضمن إرجاع النص للكاتب للتعديل عليه. فالكاتب هذه المرّة "مفقود" بل "مقتول" حسب ما نشرت وكالات الأنباء. فمن هو صاحب الخطاب الأخير؟

 

جمال خاشقجي، متنبي العصر السعودي، والصحفي والناشط المترأس نشرات الأخبار التي أعلنت خبر فقدانه يوم الثاني من أكتوبر من هذا العام. ما إن عدّ الجمهور الساعات حتى تبادلت القنوات والصحف والتلفزيونات خبر موته مقتولاً في سفارة بلاده في تركيا. حالة خاشقجي كصحفي لم تكن الأولى في تركيا فقد ذكر موقع لجنة حماية الصحفيين أن خمسة صحفيين من جنسيات مختلفة قُتلوا ما بين العامين (2011-2018). وبحسب اللجنة ذاتها فقدَ أربعة وأربعين صحفياً حياتهم خلال عملهم الصحفي في مناطق مختلفة من العالم لكن مقتلهم لم يأخذ ذات الصدى الذي حاز عليه نبأ خاشقجي.

 

فتح اغتيال جمال خاشقجي باب النقاش على مصراعيه حول حالة الصحافة العربية في الوقت المعاصر ضمن اتجاهات عديدة أهمها: أمن الدولة القومي كمبرر لتقييد حرية الإعلام والعلاقة بين السلطة والوسائل الإعلامية، والتأثير على الجمهور وحقة في المعرفة، ومأساة التشويش والتضليل الإعلامي في الوطن العربي. كما أنها حالة تسلط الضوء على ظاهرة تدفق الأخبار للحصول على السبق الصحفي. تضمن الخطاب الأخير لجمال خاشقجي عنونة مباشرة وواضحة لمسألة حريّة التعبير في الوطن العربي "أمسُ ما يحتاجه العالم العربي هو حريّة التعبير"، استهلّ خطابه بالحديث عن مؤشر الصحافة لعام ٢٠١٨ الذي أظهر انحداراً في مستوى حرية التعبير الإعلامية في الوطن العربي. تونس هو البلد العربي الوحيد الذي حظي بتصنيف "حر"، أما الأردن والكويت والمغرب نَلنَ تصنيف "نصف حرة" لذات المؤشر.

 

برز الارتباك على الإعلام السعودي حينما أعلن القنصل السعودي في مستهل الحدث خروج خاشقجي من السفارة، ليقوم الإعلام نفسه بعد ثمانية عشر يوماً بنشر رواية الموقف الرسمي 

لفت تدفق المعلومات المتعلقة بمقتل الصحفي خاشقجي بين الساعة والأخرى انتباه المشاهدين والقارئين. انهالت الأخبار بسرعة بل بعُجالة دون الاعتماد على مصدر صريح وهو أهم ما يعتمدُ عليه الخبر "المصدر". اعتمدت القنوات والصحف العربية على مصادر أجنبية وروايات نُشرت في الصحافة التركية والغربية، فقد أثارت التغطية -المدروسة ربما- سيناريوهات عديدة حول قضيته. بدأ الأمر بإعلان اختفائه، ثم تناقلت الأخبار روايات ركزت على قتله، تحدثت فيها الصحف تارة عن خلفية علاقته بالنظام الحاكم في بلاه السعودية، وتارة أخرى ركزت فيها على احتمالية قتله بسبب كتاباته الناقدة لما يحدث في العالم العربي بشكل عام وفي السعودية بشكل خاص تحديدا بعد تولى محمد بن سلمان الحكم.

 

استمر الزّج بأخبار تصف بدقة مراحل دخوله السفارة وقتله وتقطيع جسده وصولا لمعلومات حساسة جدا جاءت من مصدر أمنى استخباراتي تركي تحدث عن العملية كاملة وفريق سعودي نفذ مهمة القتل. هذه الجزيئة من الحدث، تشير إلى احتكار الآخر- المبرر- لتدفق المعلومات. وقد تم الحديث عن ذلك في كتاب "وسائل الاعلام واداره الصراع العالمي". حيث أشار الكاتب سليمان صالح إلى دراسات تتحدث عن سمات التدفق الاخباري وأهمها الاختلال وعدم التوازن والانتقائية، "إن فهم عملية الاختيار والانتقاء التي يتم عن طريقها السماح لمعلومات معينة بالمرور عبر بوابات الإعلام الدولي، وعبر بوابات الطريق السريع للمعلومات يمكن أن يوضح لنا كيف يغرق العالم في طوفان من المعلومات وفي الوقت نفسه يعيش في مجاعة معلوماتية".

 

أما الجانب الآخر من جزئية تدفق الأخبار فيشير إليها خاشقجي في خطابه وهو "الرقابة على المعلومات" "فإن العرب الذين يعيشون داخل هذه البلدان إما غير متطلعين أو مضللين فهم لا يستطيعون معالجة المسائل التي تؤثر على المنطقة وحياتهم اليومية على نحو كاف، ناهيك عن مناقشتها علناً" (الخاشقجي, washington post, 2018). فلولا وجود رقابة محكمة لما التزم الموقف الرسمي السعودي الصمت، ولما ظهر الإرباك في تغطية الاعلام السعودي للحدث، فقد برز الارتباك حينما أعلن القنصل السعودي في مستهل الحدث خروج خاشقجي من السفارة، ليقوم الإعلام السعودي بعد ثمانية عشر يوماً بنشر رواية الموقف الرسمي التي قالت بأن موت الصحفي كان نتاجاً لتشاجرٍ بالأيدي مع موظفي القنصلية.

 

وما أن أعلنت السعودية مقتل الخاشقجي حتى هلّت الحكومات العربية مثل مصر والامارات وفلسطين وغيرها بتصديق روايتها ووصفها "بدولة العدل والإنصاف" بينما خرجت أصوات بنبرات مغايرة أبدتْ انزعاجها واستيائها ورفضها وتشكيكها في الرواية السعودية، واستهزأت بركاكة السيناريو المعروض على الشاشات العربية والعالمية. وطالبت منظمات دولية عديدة منها الأمم المتحدة، واليونيسكو، والعفو الدولية ومنظمات افريقية بالدفاع عن الحرية الصحفية ومعاقبة المتورطين الثمانية عشر في مقتل الخاشقجي ومن أعطوا الأمر بقتله. على عكس موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي فضل فرض عقوبات على السعودية التي -لم يقتنع بروايتها- حول مقتل خاشقجي على أن يلغي صفقات بيع الأسلحة.

 

ويواصل الخاشقجي القول في خطابه "لقد منحت الحكومات العربية حرية مواصلة إسكات الإعلام بمعدل متزايد. كان يعتقد الصحفيون أن الإنترنت سيحرر المعلومات من الرقابة والسيطرة المرتبطتين بوسائل الاعلام المطبوعة لكن هذه الحكومات التي يعتمد بقاؤها الفعلي على السيطرة على المعلومات أعاقت الإنترنت بشدة". أين حق الجمهور في الحصول على المعلومة؟ وهل تستغفل الحكومات عقول الشعوب؟

 

ليس هذا وحسب، ظهرت رواية أخرى من مصدر لم يكشف عن اسمه، صبيحة العشرين من أكتوبر تنفي ما آلت إليه التحقيقات التركية. تبين الرواية الجديدة أدوار المتورطين في عملية القتل وتؤكد أن خطة لقاء الخاشقجي هدفت لإقناعه بالعودة للسعودية. وبحسب المصدر، فإن الخطة هدفت في البداية إلى خطف خاشقجي وإقناعه خلال مرحلة الخطف داخل "منزل آمن" في إسطنبول بالعودة للسعودية، حيث تحدث المقرب من بن سلمان وعضو الفريق "ماهر المطرب" مع خاشقجي بالقنصلية وطلب منه العودة إلى بلاده، ثم سرعان ما بدأ يهدده بالتخدير والخطف في محاولة لإخافته، ووصف المصدر السعودي لرويترز ما قام به المطرب بـ"التجاوز" لأهداف المهمة. الأمر الذي دفع السعودية فتح تحقيق في الحادثة.

 

العالم العربي يحتاج بقوة للخروج من إطار الشاشة المتلفزة ليرى الواقع بعينه ويلمس ما يُسّمى بالحقيقة فالحكومات العربية تسعى إلى جعل مجموعة من الناس تتكلم بينما يستمع المتبقين 

أصبح المتلقي لخبر مقتل الصحفي جمال الخاشقجي يرسم احتمالات مختلفة ويحلل ما يذاع من أخبار دون الوصول لنتيجة حتميّة. يفرغّ جوعه للمعلومات والحقيقة في عرض ما يجول بباله عبر مواقع التواصل الاجتماعي. إن النقص المعرفي لما حدث حقيقة يؤدي إلى القبول بالسرد العام الذي فرضه الآخر على المتلقي، ولهذا قَبِلَ المتلقي العربي الصورة النمطية التي شكلتها الوسائل الإعلامية الغربية ومصادر المعلومات الأجنبية عن هذه الفاجعة التي أنهت حياة إنسان، والتي بوجودها عبرت عن الحالة العربية التي تعاني الحكم المستبد وتقع ضحيته وعبّر جمال عن هذا: "يُهيمن سرد تديره الدولة على النفسية العامة وبينما لا يصدقه الكثيرون، إلا أن أغلبية كبيرة من السكان تقع ضحية لهذه الرواية الزائفة".

 

حالة القتل لصحفي عربي أعطت مثالا جيدا ودراسة جيدة -للأسف- لتراجع المصداقية في بعض وسائل الإعلام التي نجحت الحكومات في التحكم بهيكلة وتشكيل أخبارها ما أثر على الجمهور المتلقي، فتوجه للبحث عن معلوماته من مصادر أخرى. ليس هذا وحسب بل ظهر العجز الإعلامي العربي في الاعتماد على مصادره الخاصة ونقصه الحاد لمنظومة إعلامية قويّة ترد على الأصوات الأخرى.

 

اعتمدت أيدولوجية التغطية على الأجندة السياسية لا سيما في ظل وجود الأزمة الخليجية. ركز الإعلام السعودي على توجيه الاتهامات للإعلام العربي الآخر الذي يعد طرفا خصما في الأزمة الخليجية. في المقابل، لقد كان جلياً أن الإعلام الخصم للسعودية ركز على كثافة الأخبار التي صيغت بطريقة تؤكد اهتزاز مكانة السعودية عربيا ودولياً. وبهذا الخصوص قال الخاشقجي في خطابه "يواجه العالم العربي نسخته الخاصة من الستار الحديدي التي لا تفرضها جهات خارجية ولكن من خلال القوى المحلية المتنافسة على السلطة. خلال الحرب الباردة، لعبت “إذاعة أوروبا الحرّة” التي نمت على مر السنين إلى مؤسسة حاسمة دورًا هامًا في تعزيز وإدامة الأمل في الحرية. العرب بحاجة إلى شيء مماثل". (الخاشقجي, Washington Post, 2018).

 

يحتاج المواطن العربي أو الجمهور العربي للمعرفة وللنظرة الشاملة للأحداث. الإنسان المواكب لثورة المعلومات والاتصال يعي تماما حاجته لتحليل المعلومات وتفسيرها وقاية من الوقوع في الجهل والتخبط. يوضح الكاتب سليمان صالح " إن الإنسان المعاصر أصبح يحتاج إلى تحليل المعلومات وتفسيرها أكثر من حاجته للمعلومات في حد ذاتها هذا ما لا تقدمه وسائل الاعلام في العالم المعاصر ذلك ان تلك الوسائل تعتمد على النموذج الغربي في التركيز على المعلومات والرغبة في نقل المعلومات بسرعه".

 

إن العالم العربي يحتاج بقوة للخروج من إطار الشاشة المتلفزة ليرى الواقع بعينه ويلمس ما يُسّمى بالحقيقة فالحكومات العربية تسعى إلى جعل مجموعة من الناس تتكلم بينما يستمع المتبقين جالسين متقبلين لكل ما يردد على مسامعهم وكأنها أمور مُسلمة. على ما يبدو أن جمال فسّر قتله بنفسه في خطابه الأخير. معطياً الجمهور رأس الخيط في قضيته. مشيراً بسبابته نحو حكوماتنا العربية -ربما- موضحاً بكلماته العامة الصراع المتخّفي خلف ستائر الحكم العربي مُنبِهاً العربّي المتلقي من خطورة تضليله وتبعيته إعلامياً. لقد كان الخطاب الذي قتل صاحبَه، فهل سيحي الخطاب في المجتمع العربي شيئا من التغيير؟ أم أن خاشقجي سيغدو مجرد رقم في قائمة الصحفيين المغدورين يُذكر اليوم ويُنسى غداً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.