شعار قسم مدونات

كيف تؤثر نظرية "دوامة الصمت" على سلوك الجماهير؟

BLOGS حرية التعبير

مما لا شكّ فيه؛ أن الإنسان قد استخدم الاتصال عبر أشكاله البسيطة والبدائية منذ نشأة هذا الكون، فالاتصال كان وما زال هو الأداة المحورية والرئيسة لاتصال البشر بعضهم ببعض عبر الزمن، وبتطور الحياة وتقدّمها تطوّرت وسائل الاتصال المختلفة كنتيجة منطقيّة وطبيعيّة لهذا التقدم والتطور. ومع تسارع وتيرة الاكتشافات وتطور التكنولوجيا والتقنيات في شتى المجالات الإلكترونية والصناعية -خاصة في وسائل التنقل المختلفة والطباعة-؛ أصبح من السهولة بمكان تخزين النِّتاج الفكري والعلمي والثقافي الهائل للعلماء والفلاسفة والمفكّرين والأدباء في العصور المنصرمة، مما ساعد على انتشار التعليم والثقافة والمعرفة في كافة المجالات.

إن سلسلة الاكتشافات والاختراعات المتلاحقة والمتسارعة خلال فترة زمنيّة متقاربة كان السبب الرئيس والأهم في نشوءِ ما يُسمى بعصر تَفَجُّر المعلومات وتدفقها، حيث ساعدت هذه الاختراعات على إيجاد الوعاء التخزيني لمعظم النّتاج الفكري، بل عملت كحافز تشجيعي للكُتّاب والأدباء والعلماء على الاستزادة من الانتاج الفكري، مما أسهم في زيادة الوعي الجماهيري بعد أن كان مقتصراً على باباوات الكنائس والفلاسفة والمفكرين.

فبعد أن كان العلم والمعرفة والأخبار مقتصرة على النُخب والطبقة الأرستقراطية فقط؛ غدت المعلومة متاحة لدى عامة الجماهير من خلال انتشار الكتب والصحف والمجلات واختراع الإذاعة والتلفزيون والانترنت والأقمار الصناعية وكافة المخترعات الأخرى؛ الأمر الذي جعل للجماهير دور كبير في المشاركة في الأحداث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

دخول الفرد في قوقعة صمته في أغلب الأحيان لا يُعبر إلا عن رفض رأي الطرف الآخر أو تحفّظه عليه، أو عدم موافقته المطلقة على هذا الرأي

وقد وُقَفَتْ المنظومة الإعلامية منذ فجر التاريخ لهذا الوعي بالمرصاد، وسعَتْ جاهدة من خلال سياساتها ومؤسساتها وقادتها وأذرُعها المختلفة لتقييده وحصره وتوجيهه بما يخدم مصالح السلطة العليا ويدعم حكمها ويُشرعن ويبرر سلوكياتها وتصرُفاتها الهوجاء في أغلب الأحيان، ذلك أن وسائل الإعلام وُلدت وعاشت وستموت لخدمة السلطة في المقام الأول والأخير. ومهما تعالت فيها نسب الشفافية والنزاهة والمصداقية فهي لا تستطيع الخروج من عباءة السلطة بالمطلق، سواء في الوطن العربي أو خارجه.

وتُعتبر "نظرية دوّامة الصمت" التي وضعتها العالمة الألمانية إليزابيث نويل نويمان عام 1974 من أولى النظريات الإعلامية وأهمها وأدقها في تفسير سلوك الجماهير تجاه الأحداث المجتمعية. "فنظرية دوامة الصمت" تفترض ابتداءً وجود علاقة ارتباطية وقوية ما بين متغيريين أساسيين هما وسائل الإعلام وما تبثه من مضامين وبين توجه الجماهير وميولهم واعتقادهم، فهي عملية ديناميكية تتدخل فيها عوامل نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية.

وتقوم دعائم هذه النظرية على أساس أن الفرد يعيش في مجتمع ويتفاعل مع بيئة الرأي العام بمقوماته وعوامل تشكيله، لذلك فالفرد يميل إلى تشكيل رأيه طبقاً للرأي العام السائد في المجتمع المتواجد فيه، وبالتالي يتكون الرأي العام بما يتسق مع الأفكار التي تدعمها وسائل الإعلام فيتشكل الرأي العام الجماهيري الموحّد. أما المعارضون لهذا التوجّه أو لذلك الرأي؛ فإنهم يتّخذون موقف الصمت تجنباً لاضطهاد الجماعة، وخوفاً من العزلة الاجتماعية، وبالتالي إذا كانوا يؤمنون بأراء مخالفة لما تعرضه وسائل الإعلام والاتصال؛ فإنهم يحجبون آراءهم الشخصية ويمتنعون عن المشاركة في الحديث، وهنا يكون الصمت هو تعبير عن الرفض لا القبول.

وهذا ما يُسمى بالرأي العام الكامن، الذي لا يظهر غالباً إلا في بيئة ديمقراطية حاضنة، قادرة على منح مساحة كبيرة من حرية التعبير عن الرأي والتوجه والميول، بيئة لا يحكمها شخص بسلطويته وجبروته؛ إنما مجلس شعب مُنتَخَب على قدر عالٍ من الثقة والمصداقية والأمانة. ومن خلال متابعة الأحداث والوقائع الجارية على الساحة المحلية والإقليمية والدولية نلاحظ أن هذه النظرية ما زالت تُمثل اتجاه السواد الأعظم من أبناء الأمة العربية؛ وما يدُلنا على ذلك؛ كثرة الهجرات والتنقلات بين الدول بحثاً عن بيئة حاضنة قادرة على تحويل الآراء الكامنة ولمكبوتة إلى ظاهرة ومُعلنَة، وقادرة على إخراج المقهورين والمقموعين من دوامة صمتهم وبؤسهم وعذاباتهم.

حقيقةً؛ إن "نظرية دوّامة الصمت" تشرح حال الكثيرين من أفراد المجتمع ليس على المستوى السياسي فقط؛ وإنما على المستوى المجتمعي والثقافي والعلمي، فدخول الفرد في قوقعة صمته في أغلب الأحيان لا يُعبر إلا عن رفض رأي الطرف الآخر أو تحفّظه عليه، أو عدم موافقته المطلقة على هذا الرأي، وأحياناً كثيرة لا يكون إيثار الصمت خوف عن التعبير عن الرأي؛ إنما هناك أسباب كثيرة ومتعددة وعوامل متنوعة يمكن أن يفسّر هذا الصمت في ظِلّه؛ مثل عدم إحراج الطرف الآخر، أو حفاظاً على المشاعر، أو عدم الرغبة في الاسترسال في الكلام، أو رغبة في إنهاء اللقاء أو الحديث، أو أي عوامل نفسية أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.