شعار قسم مدونات

في الحاجة إلى الفلسفة!

BLOGS كتب قديمة

إن الفكر دودة تنخر العقول، الأسئلة المحرقة والمحيرة، التي تدفع الذات نحو البحث والتساؤل، والرغبة المحمومة في القبض على الكلي، هذه ميزة ألمانية، وحدهم النيتشويون، يعرفون معناها العميق، لأنهم يجدون تجسيدها الأسمى في مفهوم "إرادة القوة" التي دعا إليها نيتشه وبشر بها عقيدة للإنسان الأعلى، إنها "إرادة الحياة" الشوبنهاورية مقلوبة، وهذه ميزة الفلسفة الألمانية، قلب للتصورات، كساعة رملية.

 

إن الذين يوسعون من آفاق عالمهم الضيق، وينزعون الحدود المبتوتة في العالم، حدود الجغرافيا، واللغة، والدين، والانتماء، والعقيدة.يعرفون معنى النزعة الإنسانية والمواطنة العالمية، لذلك تجد عقولهم ونظرا لشساعة ورحابة الآفاق الممتدة أمامها تعيش حالة من القلق الدائم هو سمة كل وجود أصيل، يتوخى البحث عن المبادئ الثابتة في العالم.

  

لأن الفلسفة هي النمط الوحيد من التفكير القادر على إعطائك "فهما حقيقيا" أولا بذاتك ثانيا بالعالم. فالتفكير هو ماهية للإنسان لكن طرق التفكير وأنماطه هي التي تختلف فيما بينها

إن هذا التحيز المفضوح نحو الكوني هو ما يجعل كل العظماء عبر التاريخ، أدباء، فنانين، فلاسفة، أنبياء، يتجهون نحو التأكيد على مبادئ تتجاوز كل الحدود الوهمية لتصل بمداها الى المطلق، متجسدا في فكرة خارقة وعظيمة، تحكم على من تبناها بالقلق، ليس بمفهومه المرضي، لكن القلق بمفهومه الوجودي، كحالة تجد الذات نفسها أمامها حائرة مندهشة باستمرار، ساعية للاكتمال، لكن واعية بذاتها، وبفنائها وتناهيها، وهي عملية زمانية بامتياز.

 

هذا هو جوهر الحياة بشكل عام، إنه نظام طبيعي مبتوت، لكن الثقافة صنعت عقاقير مخدرة لهذه الإنسانية الطافحة، عقاقير منومة "أوهام" قصفها نيتشه بقوة خلال القرن 19م. لكنها لم تنكسر، رغم أنه أعمل طريقة خبيثة جدا لأنه قام بـ"نقد جنيالوجي"، سخر له كل طاقة جسده الواهن، وروحه العظيمة، لكن التلامذة الأوفياء لنيتشه أسسوا لمرحلة بكاملها هي مرحلة نيتشوية بالأساس، مرحلة مابعد حداثية، مرحلة عدمية بامتياز، مرحلة قلقة وضجرة، لا بد لكل ذات أن تأخد طابعها إن أرادت بعمق أن تجسد "روح العصر".

  

لكن مشكلنا نحن أبناء عقيدة الصحراء، أننا مازلنا نبحث عن الثوابت، أو لنقل أن بعضنا هو من يبحث عن الثوابت الجديدة، أما الغالبية العظمى فما زالت في مرحلة غيبوبة تاريخية، نوم أبدي، لن يوقظنا منه سوى نقد جنيالوجي راديكالي، يهز بنية وجودنا الحضاري من أساسها، ويبث فينا، عقيدة جديدة، تستوعب روح العصر وتندمج في العالم الكلي، ومن كان منا ينظر نظرة تتجاوز الآفاق المرسومة، وينظر بعيدا سيرى أن نزعة الأصالة الموبوءة، تندحر نحو هاوية التجاوز التاريخي التي لا تعرف المصادمة، لأنها عجلة ضخمة قدر "فوق إلهي" -ما دام الإلهي خارج دائرة التاريخ- لذلك فإن الإنسان الذي يوجد في هذا الوضع، سيصاب بفصام رهيب، لأنه يجمع المتناقضات، في ما يرتبط بوضعه التاريخي الخاص: لا بد أن يتبنى أفكار القرن الثامن عشر ويدافع عنها بقوة وصراحة، لكن في عمق كيانه هو مسكون بروح عدمية مرتبطة بالبنية العامة للتاريخ.

 

لذلك فكل قلق في هذه اللحظة سيكون مفهوما، زد على ذلك أن هذه الذات، تعيش قمة جدلها الفكري، لأنه لأول مرة تربط إشكالاتها الذاتية الخاصة، بالروح العامة، وبالحضارة، والمصير المشترك. إن الفكر هو "المخاطرة" بتعبير نيتشه. هو فهم النسق أو الأنساق الكبرى للعالم.

 

التفكير هو حركة لا تنتهي، وما دامت غير منتهية فهي غير قابلة للتحديد مادام تعريف المفهوم هو تحديدا له. لذلك فالفكر هو نوع من المغامرة هو خروج من الأنساق المتوارثة وبحث عن الحقيقة بمعناها الكلي. لذلك كان المفكرون دائما " متهورون كبار" " مخاطرين". لذلك لم تكن هناك حدود بين ما يفكرون به وما يقومون به في حياتهم ونمط عيشهم. في نظري هذه هي النظرة التي أراها وأنظر بها إلى العالم. كما أن الفكر قد يكون آلية لاشتغال الذهن، فنحن نفكر في كل وقت وحين. عرف هيدجر الفلسفة بأنها "تفكير في التفكير" أي تفكير في كيفية إنتاج الحقيقة.

 

لأن الفلسفة هي النمط الوحيد من التفكير القادر على إعطائك "فهما حقيقيا" أولا بذاتك ثانيا بالعالم. فالتفكير هو ماهية للإنسان لكن طرق التفكير وأنماطه هي التي تختلف فيما بينها. فالتفكير الأسطوري هو نوع من التفكير لكن تمثل خيالي للواقع. لكن التفكير العقلاني الذي نجده في العلم والفلسفة هو التفكير الوحيد القادر على منحنا هذا الهدف النبيل وهو "ملاقاة أنفسنا في العالم" لأن الكثيرين هم موجودون لكن تفكيرهم خاضع لنسق لـ "حقيقة معينة" قد تكون صحيحة أو خاطئة. لذلك التفكير الفلسفي هو الطريق لمساءلة البداهات كما يقول ديكارت وهو الطريق لملاقاة ذواتنا في الوجود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.