شعار قسم مدونات

مفاهيم من قبس الوحيين.. "إنها لحياة طويلة"

مدونات - مسجد

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. قال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم. قال: بَخٍ بَخٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بَخٍ بَخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءه أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: -أي الراوي- فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل" رواه مسلم. يأتي هذا المشهد في خضم غزوة بدر من صحابي جليل صدق الله فصدقه، يقول فيه تلك الكلمة التي تعتبر من رؤوس الحكمة: إنها لحياة طويلة! إنه مفهوم الآخرة عندما خالط تلك القلوب التي شهدت التنزيل عيانًا، والتي فهمته ومزجت به امتزاجًا.

لقد كانت تلك الكلمة مفتاحًا لقاعدة عظيمة من قواعد الدين، ألا وهي قاعدة التذكر، تذكر الآخرة، والوصول لدرجة شهود المراقبة الإلهية، تلك التي يحلم بها كل مبتغٍ لوجه الله تعالى. إن المفهوم المذكور في القرآن والذي تصر نفوسنا على نسيانه، وعقولنا على تجاهله، هو الذي وجدناه في قوله تعالى "كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)". إنها تلك النفوس التي جُبلت على نسيان الآخرة، ذلك النسيان الذي يجعل الإنسان يستطيل في معصيته، ويتكبر على خالقه، ويضع نصب عينيه طول الأمل وبعد الأجل، وذاك والله هو عين الخسران وأساس الظلم والبهتان!

إن مفهوم الآخرة هو الذي يسمح لنا أن نعيش طبيعتنا الإنسانية الروحية، في عالم لا يعترف إلا بالمادة، هو المفهوم الذي يفتح لك الطريق للعيش في أعلى عليين بينما أنت لا تزال على الأرض الفانية، إنه المفهوم الذي يقلب حياتك من حياة منتهية إلى حياة أبدية. "يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس" تلك هي الوصية التي أُمر بها سيد الخلق محمد – صلى الله عليه وسلم – عش ما شئت يا ابن آدم فإنك ميت، ما بال أحدنا يعيش كأنه يملك عمره وموته وحياته؟ أما والله لو كان لأحد في هذه الأمة ميزة امتلاك عمره لكان سيّد تلك الأمة. (وأحبب من شئت فإنك مفارقه)، إنك يا من أصله التراب أي شخص أحببته سيتركك يومًا أو تتركه، محبًا أم كارهًا.

إنك يا من تنسى الآخرة، تغمض عينيك عن اليقين، تريد العاجلة دائمًا، هكذا أنت حتى في أمورك الحياتية، "وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا"

"

إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – علمك كيف تشهد الآخرة في مشاعرك ومحبتك، وكيف تجعل محبتك طريقًا للآخرة، عندما وجّه ذلك الصحابي السائل عن الساعة وقال له: "وماذا أعددت لها؟" فأجابه ذلك المَرضِيُّ عنه: "لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله" ليأتيه ذلك الجواب الذي يملأ القلب يقينًا وينير الروح سكينة "أنت مع من أحببت". صلى الله عليك يا حبيبنا، ها هو الصادق المصدوق يعطيك جرعة التذكر الأخروية قبل أكثر من 1400 سنة. ها هو يقول لك: في هذا الدين العظيم الكل رابح! لا خاسر ألا من أبى الربح، أنت مُثاب في مشاعرك، في محبتك، في كل أنفاسك. أحبب من شئت فإنك مفارقه، إلا الله ورسوله، فإنهما قائداك إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أحببهما تفلح، أحببهما تكن مع الذين انعم الله عليهم، الله الله في مشاعرك.

(واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به) إنك يا من تنسى الآخرة، تغمض عينيك عن اليقين، تريد العاجلة دائمًا، هكذا أنت حتى في أمورك الحياتية، "وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا" إنك تتلقى التحذير الذي تلقاه سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وأنت لاهٍ عنه شاردٌ عن النور الذي أمام عينيك. النور الذي يدعوك للصراط المستقيم والطريق القويم، إنك مجزي بكل ما تعمل، إن خيرًا فأبشر بالسعادة والرضوان، وإن شرًا فأمامك أبواب الله الواسعة لترجع لصراط الذين أنعم الله عليهم. صراد المنادي: أن يا عبادي إنكم مجزيّون ومحاسبون، وإنني أنا الغفور الرحيم، فلا تقنطوا من رحمتي، فهي وسعت كل شيء " ۖوَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ".

(واعلم أن شرف المؤمن قيامه في الليل وعزه استغناؤه عن الناس) بعد أن روّضت نفسك أنها ميتة وأنها يجب أن تسابق إلى الخيرات، وأنك ينبغي أن تتذكر الآخرة، في مشاعرك، وفي أعمالك. ها أنت ذا تستيقظ تاركًا نفسك الأمارة بالسوء مغاضبةً، وشيطانك مقهورًا، تاليًا كلام ربك في جوف الليل، محققًا منزلة الإدلاج "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة" ساعيًا إلى سلعة الله العظمى، طامعًا بجنة عرضها السماوات والأرض، وما أجمل طمع العبد بمكافأة سيده، حيث الطمع عبادة وسعادة.

أما في أعمالك الحياتية، فعزّك استغناؤك عن الناس، هكذا تتذكر الآخرة، حتى في خضمّ انشغالك بالحياة الفانية "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعـوك بشيءٍ لم ينفعوك ألا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك ألا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف" عندما تريد العون، اسأل الله المعين، وإن بغيت الرزق فاسأل الله الرزاق، وإن رمت الهداية فاسأل الله الهادي، وإذا سُدَّت أمامك الطرق، فاسأل مفرّج الكروب.

طريق واضحة المعالم، مستقيمة الاتجاه، منتظرة الناجين من الله إليه، الملتجئين له المنتظرين رحمته، يرسمها هذا الحديث معلّمًا إيانا كيف تكون طريق الآخرة جزءًا من حياتنا. بل كيف تكون حياتنا آخرة قبل الآخرة، وسعادة قبل السعادة، وفوزًا برضوان الله ومحبة رسوله، فالله الله في تذكر الآخرة، فوالله إنها لحياة طويلة. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.