شعار قسم مدونات

عُقدة الخواجة والسترات الصفراء

Protesters wearing yellow vests kneel in front French riot police near the Champs-Elysees Avenue at a demonstration by the "yellow vests" movement in Paris, France, December 8, 2018. REUTERS/Benoit Tessier

لم يعتدِ المواطن العربيّ على صورة المسؤول الذي ينزلُ للشّارع ليخاطبَ جمهوره، أو الذي يتنقل بدراجته الهوائية، ويركب "المترو" دون حراسةٍ أو تشديد أمني يبدأ بعشر سيارات تسبقُ سيارته وينتهي بعشرٍ أُخَرَ خلفها، لذا عندما يشاهدُ مُرشّحا للانتخاباتِ أو رئيسًا، يتعامل وكأنّه من الشّعب أتى وإلى الشعب ينتمي، ينهالُ عليه إمّا بالنُّكات أو السخرية، أو تداولِ صورهِ ونعتِه بالمهرّج، فالحاكم العربيّ في أوطاننا إمّا عاجزٌ عن أداء مهامه الفيزيولوجية، وإما على كرسيّ متحرك لم يخاطبْ شعبه منذ سنوات ضوئية، وإمّا مستبد قاتل، وإمّا وليّ عهد يحملُ منشارًا، وإمّا (رِجْل كرسيٍّ) تتحكم فيه القوى العظمى وهو لا حول له ولا قوة، وإمّا رئيس أتى على دبابةٍ فاستحكم في رِقاب شعبه فلم يتنفسوا بعدها سِواه.

 

وفي أوطانٍ كهذه، ينخرُ الفساد عمقَ بُنيتها، وتهرَم الحقوق في مؤسساتها، وتُعاقَب الحريات في زنازينها، وتنهشُ الكلاب جيوبَ وعظام مُواطنيها، أصبحَ من الطبيعيّ جدا أن تخرج علينا كلّ يوم أصنافٌ بشريّة، تقتلُ فيك الشّعور بالصّدمة أمامَ عباراتهم المُنتقاة على مقاسِ عقولٍ طُحِنت جُبنا، وغرقَت جهلا فأبتْ إلاّ أن تدخلَ التاريخ تطبيلا وتشبيحًا وتقديسًا لحاكمٍ لا يعرفونَ عنهُ سوى تلكَ الصورة التي يضعونها خلفيةً لشاشةِ هاتفهم، أو حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. أمّا أحدثُ تلكَ الفئاتِ ظهورًا وأشدَّهم تأثيرا، تلك الفئة التي اعتادتْ على سياسةِ جلدِ الذات، وتصويبِ سهامِ الاتّهام لأنفسهم وأشقائهم من العرب، تصويبًا ينزل بردا وسلامًا على أفئدتهم، فيزيحُ عنها ما تراكمَ من مسؤوليات تُجاه بلدانٍ لم تأخذ رأيهم بجديّة يومًا.

 

إنّها عقدة الخواجةِ إذن، تلكَ التي اجتاحتْ تفكيرهم حتى انسلّت من وحْل كراهيتهم لتعشّش في كلّ جزءٍ من عروقهم، حتى إذا ما ألمَّ خطبٌ بدولِ الضفة الأخرى، لبسُوا قِناع الرّقة، وجلسوا يبحثونَ عن كلماتٍ حادّة يطعنونَ بها صدورهم، لعلّ من يسمعهم هناك، يتلقفُها بعين المحب الأعمى، فينظر إلينا كمدا، بعد أن ضحك عليه آباؤه وإعلامه عُمرًا، هؤلاء، إن شاهدوا عملية تفجير في بلدٍ ما، سارعوا إلى اتّهام العرب، حتى وإن كانتِ التحقيقات قد أفضتْ إلى أنّ منفذها ابن البلد نفسه، فسيخرج علينا منهم مَن يقصّ رواية ارتباطه وتأثرهِ ببيئةٍ يكثر فيها العرب.

هل سَيَعي هذا العربيّ الملتصقُ بلحاف الغربيّ توددا، أنّه وإن حصل على عشرِ جنسيات أجنبية فلن يكون في نظر الغربيّ إلاّ عربيا قدِم يومًا من بلدانِ العالم الثالث

ومع تفاقُم أزمة الضرائب في فرنسا، واستمرارِ الاحتجاجات فيها، وجدتْ تلك الجماعة فرصتها للظهور بعد موسم غابت عنه أحداثٌ كبيرة تستدعي أصواتهم المهمة تلك. فجهّزوا جعبتهم من الكلمات المؤيدة في البداية ثم المواسية، المؤيدة لما أسموه ثورة "الشانزيليزيه" بعد أن طعنوا في ثوراتِ جيرانهم وناصروا قاتليهم، طالبين له المدد والعون في صلواتهم، والمواسية المعبرة عن قلة حيلتهم أمام ما يشاهدونه لمعشوقتهم فرنسا التي حرمهم العرب المخرّبون من رؤية جمالها والاستمتاع به في إجازتهم القادمة.

 

فصبُّوا جامَ غضبهم وعنصريتهم على العرب والأفارقة المُجنّسين تبريرا لما وصلت إليه الأوضاعُ في فرنسا من تكسيرٍ وتخريبٍ وعصيان فلم تحملْ عقولهُم تصديقَ أنّ الفرنسيّ الذي أعدمَ ملكه لويس السادس عشر، وملكته أنطوانيت بالمِقصلة حتى تدحرجتْ رؤوسهم أمام الملأ، والفرنسيّ الذي انتفضَ مُقتحما أشهر قلاعهِ محوّلا كلّ ما يراه إلى خراب آنذاك، والفرنسيّ المستعمر الذي حوّل الجزائر إلى شلّال دماء وأشلاء، ممارسًا فيها كل أنواع التعذيب والقتل والإجرام، بإمكانه أن يمسكَ حجرا أو يضربَ شرطيا بقارورةِ شراب أو يسرق ويكسر محلّا تجاريا، وكأنّ الفرنسيّ في ذهن هؤلاء، إمّا أبله يسمحُ لعربٍ أن يقولوا عنه ما يودُّ هو قولَه فتنصاعُ له الدولة راكعة، ويخرج الرئيس بعدها معتذرا، وإمّا لشدة لطافته، يتظاهر وقارورة العطر في يمينه ووردة حمراء في يساره، لذا كان من الصعب على عقولهم المحشوّة غباءً وجهلا وعنصرية تصديقُ ما يشاهدونه على شاشاتِ التلفاز من صورٍ تجرحُ قلوبهم اللطيفة.

 

كتب فرنسيّ قائلا: "يمكنُ للعنف أحيانا أن يوصلَ رسالتك بشكلٍ أسرع"، وضحكَ آخر عندما سمع أنّ عربا يتّهمون عربا آخرين بافتعالِ مشاكل وأعمال عنفٍ في فرنسا. فهل سَيَعي هذا العربيّ الملتصقُ بلحاف الغربيّ توددا، أنّه وإن حصل على عشرِ جنسيات أجنبية فلن يكون في نظر الغربيّ إلاّ عربيا قدِم يومًا من بلدانِ العالم الثالث، وأنّه مهما حاول تلميع صورة الغربيّ بشكل مبالغ فيه على حساب احتقار ذاته، لن يؤهله ليكون فرنسيا أو أمريكيا أو ألمانيا أكثر منهم؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.