شعار قسم مدونات

بعد أزمة الليرة واعتقال القس.. ما أسباب التقارب التركي الأميركي الأخير؟

BLOGS أردوغان وترمب

منذ نهاية الحرب الباردة دخلت العلاقات الأمريكية التركية مرحلة جديدة، عززت من المكانة التركية لدى الأمريكان، نظرًا لقيام تركيا بأدوار فاعلة تتماشى مع المخططات الأمريكية عبر مشاركتها في التحالف الدولي الذي أقامه الأمريكان ضد العراق مطلع التسعينيات، وسماحها للقوات الأمريكية باستخدامها للأراضي التركية لتنفيذ عمليات عسكرية ضد العراق عام 1991 كما ساهمت تركيا في تنفيذ منطقة حظر الطيران في شمال العراق، وبالرغم من التوقعات التي سادت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، لم تتراجع المكانة التركية في نظر الولايات المتحدة، لكن التغيرات التي شهدها العالم بعامة، والتغيرات التي حدثت في الشرق الأوسط بخاصة، حملت في ثناياها شكلًا جديدًا لطبيعة الدور التركي.

 

ومن أبرز تلك التطورات ظهور دول جديدة مجاورة لتركيا أو قريبة منها عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، وحاجة الأمريكان لمد نفوذهم إليها بالاستفادة من العلاقات الثقافية والتاريخية بين هذه الدول الناشئة وتركيا، وتراجع الدور الإقليمي للعراق بعد حرب الخليج الأولى وحصاره اقتصاديًا، دخول الصراع العربي الصهيوني مرحلة جديدة بعد مؤتمر مدريد للسلام، وأحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وإعلان الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الحرب على الإرهاب، وتعاظم النفوذ الإقليمي لإيران منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية، اندلاع أحداث التطهير العرقي في البلقان، التحول في دور حلف شمال الأطلسي بعد نهاية الحرب الباردة.

وقد شهدت العلاقات التركية الأمريكية تحولًا جديدًا منذ العام 2003، عندما رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية لضرب العراق، ولعل هذا الحدث لا ينفصل عن بقية التغيرات التي شهدتها تركيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وتبنية منطلقات جديدة للسياسة الخارجية التركية، والتي سع الحزب من خلالها إلى تحقيق استقلالية القرار السياسي الوطني، انطلاقًا من المصالح الوطنية التركية، وإنهاء مرحلة التبعية للآخرين.

تزامنت العقوبات الأمريكية على وزيرين تركيين مع انخفاض حاد في سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي وما ترتب على ذلك من ارتفاع للأسعار وارتفاع معدل التضخم

ومنذ العام 2015 شهدت العلاقات التركية الأمريكية حالة من الاضطرابات والتقلبات والازمات بعضها مرتبط بالملفات الإقليمية وبعضها مرتبط بالعلاقات الثنائية، فقد تخلت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي عن تركيا أثناء أزمة إسقاط الطائرة الروسية، ودعمت الولايات المتحدة وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها تركيا جناحًا سورياً لحزب العمال الكردستاني الذي يهدد الأمن القومي التركي، إلى جانب ما وصفته تركيا بالموقف الأمريكي المتراخي حيال الاستفتاء الذي جرى في إقليم كردستان العراق عام 2017، وهو ما يشي بالرغبة الأمريكية بإبقاء ورقة الأكراد كواحدة من أدوات سياستها الخارجية تجاه تركيا والموقف الأمريكي غير الحازم من المحاولة الانقلابية الفاشلة التي حدثت في تركيا في تموز/يوليو 2016.

وكذلك الأزمة الدبلوماسية الناجمة عن إعلان السفارة الأميركية في أنقرة تعليق جميع خدمات التأشيرات في مقرها والقنصليات الأميركية في تركيا يوم العاشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2017 وردّ السلطات التركية بقرار مماثل وقضية رجل الأعمال التركي من أصل إيراني رضا ضرَّاب المعتقل لدى الولايات المتحدة والذي قال الأمريكان أنه أدلى باعترافات تتعلق بكسر تركيا للحظر المفروض على إيران إلى جانب قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بمدينة القدس عاصمةً لإسرائيل، وربما لا تكون أزمة القس الأمريكي أندرو برانسون الذي أطلقت تركيا سراحه مؤخرًا هي الأزمة الأخيرة في العلاقات بين البلدين نظرًا للتحول الجوهري الذي طرأ على منظومة الحكم في تركيا منذ العام 2003.

خلاف عابر أم أزمة استراتيجية؟!

بالرغم من أن اعتقال القس برانسون كان السبب المباشر للخلاف الأخير بين واشنطن وأنقرة إلا اننا لا نستطيع قراءته بمعزل عن سياق متواصل يعود في جذوره إلى عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما حيث وصلت العلاقات بين البلدين إلى حالة يمكن توصيفها بأزمة مستحكمة تمثلت باختلاف وجهات النظر وتباين المواقف من الملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة الأزمة السورية، والقضية الفلسطينية والموقف من الثورات العربية وآليات التعامل مع مخرجاتها، والموقف الامريكي من الحالة الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، والريبة التركية من الموقف الأميركي الضبابي وغير الواضح منا لمحاولة الانقلابية عام 2016، وتحفظ الولايات المتحدة على شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الروسية إس أربع مئة وتذرع الكونجرس الأمريكي بها في محاولاته لعرقلة تسلم تركيا طائرات إف خمسة وثلاثين.

السبب المباشر

في شهر ديسمبر 2016 أوقفت السلطات التركية القس الأمريكي من أصل بريطاني أندرو برانسون، وأسندت له تهم من بينها التجسس والقيام بأنشطة مرتبطة بتنظيم غولن وحزب العمال الكردستاني، إلا ان السلطات الامريكية اعتبرت هذا الاعتقال كيدي وغير مبرر واتهمت تركيا باعتقاله لمقايضته بفتح الله غولن، والمصرفي التركي محمد أتيلا، الذي اعتقلته السلطات الأمريكية واتهمته بالمساعدة في الالتفاف على العقوبات الأمريكية على إيران.

وفي شهر آب/أغسطس 2018 فرضت الولايات المتحدة عقوبات على تركيا بسبب رفضها إطلاق سراح القس على اعتبار أن هذا الاعتقال تم بقرار قضائي وأن التدخل في هذه المسائل ينال من استقلالية القضاء التركي، وطالبت الولايات المتحدة بتسليمها زعيم تنظيم الخدمة فتح الله غولن الذي اتَّهمته الحكومة التركية بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، وقد رفضت تركيا العقوبات واعتبرتها بمثابة حرب تجارية عليها.

العقوبات الأمريكية ليست السبب في معاناة الاقتصاد التركي ولكنها زادت من المتاعب الموجودة أصلًا وكانت العقوبات على تركيا ذات تأثير محدود ووقتي ولم تطل
العقوبات الأمريكية ليست السبب في معاناة الاقتصاد التركي ولكنها زادت من المتاعب الموجودة أصلًا وكانت العقوبات على تركيا ذات تأثير محدود ووقتي ولم تطل
 
عقوبات على مرحلتين

جاءت العقوبات الأميركية على دفعتين لأولى كانت ضد وزيري العدل والداخلية التركيين، وتتضمن هذه العقوبات مصادرة ممتلكاتهما، ومنع الأشخاص الأمريكيين من الدخول في معاملات معهم، وتجميد الأصول المالية المتوقع وجودها في الولايات المتحدة لكليهما. وأعلنت تركيا فرض عقوبات على وزير العدل ووزيرة الأمن القومي الأميركيين من باب المعاملة بالمثل، ونتج عن إعلان العقوبات الأميركية على تركيا تدهور حاد في سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي، وارتفاع نسبة التضخم، أما الدفعة الثانية من العقوبات التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فقد تمثلت بفرض رسوم جمركية على مادتي الصلب والألمنيوم المستوردة من تركيا بنسبة 50 في المئة للصلب و20 في المئة للألمنيوم وتشكل الصادرات التركية من الصلب والألمنيوم إلى الولايات المتحدة ما نسبته 13 في المئة من إجمالي صادراتها.

وقد تزامنت العقوبات الأمريكية على وزيرين تركيين مع انخفاض حاد في سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي وما ترتب على ذلك من ارتفاع للأسعار وارتفاع معدل التضخم غير أن انخفاض سعر صرف الليرة ليس مرتبط بالعقوبات الأمريكية ولكن له امتدادات مرتبطة بمجمل الحالة الاقتصادية في البلاد وبالآليات المتبعة في عمل الاقتصاد التركي وإدارته إلا أن العقوبات الامريكية زادت من هذه المشكلة على ما يبدو.

 

ومع الآثار السلبية المترتبة على انفاض سعر الليرة إلا هذا الأمر له شق إيجابي يتمثل في زيادة صادرات الدولة التي تنخفض قيمة عملتها إذا العقوبات الأمريكية ليست السبب في معاناة الاقتصاد التركي ولكنها زادت من المتاعب الموجودة أصلًا وكانت العقوبات على تركيا ذات تأثير محدود ووقتي ولم تطل مدتها فمع الإفراج عن القس الأمريكي مؤخرًا بدأ الحديث عن رفع العقوبات على تركيا. إن اتخاذ العلاقات التركية الأمريكية مسارًا إيجابيًا في الآونة الأخيرة لا يكفي لإعادة بناء الثقة التي تصدعت عبر ما يزيد على عقد ونصف فالتصريحات المختلفة من قبل الجانب الأمريكي لن تغمض عين تركيا عن الممارسات الأمريكية الفعلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.