كرهت الهجرة وأحببت الوطن لأنه يبقى ذلك الحب الذي لا ينضب حتى وإن كان هذا الوطن هو كهفٌ مليء بالظلام لا نرى منه بوابة للأمل بوابة للخروج من مستنقع السواد الكبير. حتى وإن كان يعج بالفاسدين والمفسدين الذين يقطعون حبال الأمل لديك في أن يكون غداً أجمل! حتى وإن امتلأت شوارعه بالظلام لا بد أن يخرج من بين هذا الظلام ومن تحت هذا الرماد شيئاً من أمل يُعيد إلينا الحكم في أن نكون قناديله التي تضيء عتمة اللصوص. 

 

وكرهت الغربة على مدار سنوات ليس من باب فقداني للعمل فيها ورجوعي للوطن بل لأنني على مدار سنوات كثيرة قضيتها هناك وتنقلت بين بلدان العالم أجمع لم أرى كجمال مخيمي ومدينتي وصحرائي ومائي لم أرى ذلك الحنين الذي يسكن في جدران وكالة الغوث التي بنتها لنا على مساحة ٩٦ متر، لم أرى كجمال مدينتي التي قابلت فيها أجمل الصدف والقبلات والعناق الجميل لم أرى اتساعا بحجم اتساع صدور الناس لنجاحك وفشلك وسقوطك وهروبك.

 

برغم كل تناقضات هذا الوطن وما يحصل فيه حالياً من حراك على جميع المستويات ومن انعدام للرؤية المستقبلية في ظل الخناق الذي يتعرض له للمساومة على مبادئه سيبقى هذا الوطن أكبر من الجميع لأن هناك شعباً واعياً لما يحصل ويُحاك له من خلف كواليس بعض الدول التي لا تريد له إلا أن يكون وطناً يقف على طابور الرز الخاص بهم كغيره من التابعين في هذا الكوكب. برغم فقره وفساده وهرواته التي تسقط على رأس مواطن يطالب في حقه برغم كل هذا الألم سُيولد الأمل ويكون المستقبل عظيماً ليست أمنيات بقدر ما هي حقائق نؤمن في تحقيقها يوماً ما.

 

فالهروب إلى أي مكان أو التفكير في الذهاب بلا عودة ما هو إلا هروب كبير تخسر من خلاله ذاتك ومبادئك بأنك قادر على التغيير من الداخل وأخذ حقك عنوة من كل فاسد على أرض هذا الوطن من شماله إلى جنوبه لكي يكون لك في هذا الوطن ترابٌ يعطيكِ بعد العمر الطويل فإن غادرت واغتربت وتعبت ومتت ستجد في تربة البلاد الأخرى نوعاً من البرودة التي تسكن جسمك عند وضعه في التراب وبرداً قارساً يدمر ما تبقى لك من ذكريات عند التفاف وجهك باتجاه القبلة ستجد أن ليلاً طويلا سيمضي دون أن يكون بجانبك روحاً من أرواح من تحب.

 

لذلك علينا جميعاً أن نواجه الفاسدين عملياً وليس نظرياً بالتحدث فقط عن نزواتهم وسهراتهم وأبناءهم وثراءهم الفاحش بل علينا أن نوثق كل فاسد بجبل من الملفات التي تُلقي به خلف القضبان دون أن تقوم له قائمة فقائمة الوطن وظهره أكبر من كل الفاسدين الذين يسعون إلى كسر ظهر هذا الوطن بتملقهم وتسلقهم من خلال مناصبهم ومهازلهم.

 

تقول أحلام مستغانمي من رواية "عابر سرير" النّاس تحسدك دائماً على شيءٍ لا يستحقّ الحسد؛ لأنّ متاعهم هو سقوط متاعك، حتّى على الغربة يحسدونك، كأنّما التشرّد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً. فالغربة يا رجل فاجعة يتم إدراكها على مراحل، ولا يستكمل الوعي بها إلا بانغلاق ذلك التّابوت على أسئلتك الّتي بقيت مفتوحةً عمراً بأكمله، ولن تكون هنا يومها لتعرف كم كنت غريباً قبل ذلك؟ ولا كم ستصبح منفيّاً بعد الآن؟ هل يعلم الصّحبُ أنّي بعد فرقتهم أبيت أرعى نجوم اليل سهرانا.

 

أقضي الزمان ولا أقضي به وطراً

وأقطع الدّهر أشواقاً وأشجانا

ولا قريب إذا أصبحت في حزنٍ

إنّ الغريب حزين حيثما كانا