شعار قسم مدونات

التصوّف البوذي والشقاء المُقنّع

blogs بوذا

في الآونة الأخيرة، كنتُ أرى اقتباساً في العديد من مواقع التواصل عند الأصدقاء، يقول الاقتباس: "قال رجلٌ لغوتاما بوذا: "أنا أريد السعادة، فأجابه: أولاً، انزع "أنا" فهي الأنا والغرور، ثُم انزع "أريد" فهي الرغبة، وانظُر الآن، لم يبق لكَ سوى السعادة!" عندما بحثت عن هذا الاقتباس أكثر، وجدت عدة أقوال تُنبّه إلى أنّ هذا النص مُختلق ومزوّر، ولكن بغض النظر عن صحة نسب هذا القول إلى غوتاما بوذا، إذا تأملنا هذا النص، فإننا سنجد أنّ المعنى النهائي له يُشكّل أساساً مُهماً تستند إليه مُعظم النصوص في الديانة البوذية، وهو التجرّد من الرغبة، والانفصال عن العالم الخارجي بغية تحقيق السعادة أو الكلّية، والاتحاد بالروح الكونية.

    
"لا يحوز السعادة الخالدة ويرتاح في براهما إلا من يتحرر من المتعارضات؛ ومن هو خارج الازدواجيات يُقيم إلى الأبد في الوجود الحقيقي"

  
نجد أيضاً هذا النص أساساً في التصوّف البوذي، إنّه يرى في رغبات الإنسان الداخلية وعدم القدرة على تحقيقها تعارضاً يُشكل عائقاً أو سجناً، لا يتحرر منه إلا من تجاوز الفكرة بمُجملِها، أي أنّ وجود هذا التناقض بين الرغبة الداخلية للإنسان وموضوع الرغبة هو شيء يحول دون تحقيق السعادة، إنّه يُلغي أيضاً فكرة محاولة تحقيق هذه الرغبة أو التعب من أجل تحقيقها.

الإنسان، في مُجمله، مجموعة من الحاجات التي لا يُمكن حصرها، أبسط هذه الحاجات هي الحاجة إلى الطعام مثلاً، تحقيق التطابق بين الحاجة الداخلية للطعام والقدرة على تحقيقها يوّلد رضا نفسي، هذا في أبسط الحاجات، أيضاً، وجود التعارض بين الحاجة وتحقيقها يوّلد ألم نفسي. التنازل عن الرغبات والاقتناع بعدم الحاجة لها، وإن كان يُغني أو يُخفف ظاهراً من المعاناة، فإنه في حقيقته يُمثّل شقاءاً مُقنّعاً.

  

كيف يُمكن لإنسان يعتقد أنّ الله هو خالق كل شيء، ويتمثّل في كل شيء، التقرّب إليهِ والاتصال بهِ عن طريق التخلّي عن الأشياء التي خلقها له والزُهد فيها؟ هذا تناقض واضح

يسعى التصوّف البوذي إلى الوصول إلى حالة "النيرفانا"، أي الخلو من المعاناة، عن طريق التأمل العميق، أو "اليوغا"، من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والتخلّي عن الشهوات. ووفقاً لنظرية التناسخ، يعتقد البراهميون أنّ سعادة الإنسان تكمُن في المتاعب والحرمان والتخلّي عن الملذات، ويرون أنّ هذا يؤدي إلى النجاة في الحياة التالية، فالإنسان تتناسخ روحه، وهو مُجبر للعودة إلى الحياة، إذن ليس للإنسان سبيل إلا قتل أمنياته وترويض نفسه لأنّ العذاب سيرافقه إلى الأبد، ولن ينجو منه إلا بالتخلّي عن رغباته.

عندما لا يستطيع الإنسان تحقيق رغبة معينة، ولنقُل أنّها ضرورية، أو يجد تعارضاً بين رغبته الداخلية والعالم الخارجي الذي يُحقق رغبته عن طريقه ، فإنّه يعيش حالة من الصراع، وفكرة أن يتجاوز الإنسان هذا الصراع بالترفّع عن هذه الرغبة، ما هو إلا تنازلاً أو انحداراً في القيمة الإنسانية، والقناعة الناتجة عن هذا التجاوز ما هي إلا وهماً تُشكل في عمقها ألماً نفسياً.

 
رُبما تختلف المفاهيم والطُرق شكلياً، لكنّي أجدُ مثل هذه الغايات في التصوّف الإسلامي أيضاً، ينشأ بدايةً الصراع بين المتصوّف وإبليس، ومن المعروف أنّ إبليس يُمثل الشر والملذات ويدعو إلى مُتع الحياة الدنيا، فيُمارس المتصوّف التقشّف والزهد والتخلّي عن مُتع الحياة وينفصل عن العالم الخارجي ويُمر بمراحل عدة إلى أن يصل إلى حالة الاتصال بالذات الآلهية التي يعتقدها، وهي نتيجة قريبة إلى حد كبير من حالة النيرفانا. كيف يُمكن لإنسان يعتقد أنّ الله هو خالق كل شيء، ويتمثّل في كل شيء، التقرّب إليهِ والاتصال بهِ عن طريق التخلّي عن الأشياء التي خلقها له والزُهد فيها؟ هذا تناقض واضح.
 
من المعروف، أنّ الجوع والعطش، وقلّة النوم أيضاً، من الأشياء التي تُسبب الهلوسة للإنسان، وهي الأشياء التي يُعايشها الكثير من المتصوفين والزاهدين في الحياة، فهل لعبت الهلوسة دوراً في نشوء مثل هذه الطقوس والتصورات الدينية التي تؤول إلى مستوى الاعتقاد الجازم عند البعض؟ أعتقد ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.