شعار قسم مدونات

نقابة الصحفيين التونسيين.. نموذجا "للتصدير" في المنطقة العربية؟!

نقابة الصحفيين التونسيين

لا يتردد الفاعلون في القطاع الإعلامي في تونس في القول "بأن قصة نقابة الصحفيين في بلادهم هي قصة البحث عن الحرية". هي بالنسبة لآخرين أكثر من هذا، هي أحد المؤشرات الأساسية لنجاح التجربة الانتقالية نحو الديمقراطية في تونس ما بعد ثورة 14 جانفي 2011. منذ الأيام الأولى للثورة برزت هذه النقابة كفاعل أساسي في المشهدين النقابي والسياسي. كثيرة هي مؤشرات النجاح للدور الجديد الذي أصبحت تقوم به النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين" محليا وإقليميا.

 

ففي شهر ماي سنة 2016 استضافت نقابة الصحفيين فعليات المؤتمر الثالث عشر للاتحاد العام للصحفيين العرب وهو المؤتمر الأول من نوعه الذي تعقده كبرى المنظمات النقابية العربية للصحفيين في شمال إفريقيا منذ تأسيسها سنة 1964. كانت العادة أن تحظى بلدان المشرق العربية بشرف تنظيم مثل هذه المؤتمرات. انعقد المؤتمر بتونس العاصمة تحت شعار "لا للإفلات من العقاب بالنسبة للجرائم المرتكبة ضد الصحفيين" وهو موضوع يُعدَ من المحظورات في المنطقة العربية.

 

عاما بعد انعقاد مؤتمر اتحاد الصحفيين العرب في تونس بالحساسية التي حملها شعاره، أعلن الاتحاد الدولي للصحفيين من مقر نقابة الصحفيين في تونس يوم 18 نوفمبر2017 عن مشروع معاهدة دولية جديدة لحماية الصحفيين في العالم. فضلا عن مؤتمر اتحاد الصحفيين العرب، قررت الكونفدرالية الدولية للصحفيين عقد مؤتمرها القادم، أواسط سنة 2019 في تونس تحت إشراف نقابة الصحفيين التونسيين، وهو الحدث الذي يعدُ الأول من نوعه في المنطقة العربية وافريقيا.

 

أشواق الحرية

الدور الجديد لنقابة الصحفيين التونسيين عربيا ودوليا ساهمت فيه بشكل أساسي التحولات السياسية التي عرفتها تونس منذ عقد تقريبا أي منذ أن برزت نقابة الصحفيين كفاعل في المشهد السياسي والإعلامي التونسي. من المهم أن نعود إلى الخمس السنوات الأخيرة التي سبقت الثورة والتي اتسمت بحسب تعبير النقيبة السابقة للصحفيين التونسيين "نجيبة الحمروني"، وهي أول امرأة تعتلي منصب رئاسة نقابة صحفية في المنطقة العربية، بمثابة "سنوات الصراع من أجل شرعية الوجود".

 

أنصف التحول الديمقراطي الذي عاشته تونس نقابة الصحفيين التونسيين وأعاد الصحفيون التونسيون بأغلبية ساحقة الشرعية لمكتبها المُنقلب عليه

طوال الخمس سنوات التي سبقت الثورة خاض الصحفيون التونسيون صراعا طويلا من أجل أن يفرضوا مطلبهم بتحويل هيكلهم إلى "نقابة" متخليين عن دورهم الذي رُسم لهم من قبل نظام الرئيس زين العابدين بن علي الذي أراد أن يواصل هذا الهيكل دوره "كجمعية" تقاس أهمية دورها بمدى التزامها بالخطوط الحمر التي رسمت لها. على امتداد حوالي نصف قرن، خاض الصحفيون التونسيون صراعات متعددة من أجل الاستقلالية وحرية الإعلام وصلت هذه المعارك أوجها في السنوات الأخيرة التي سبقت الثورة مع حكم الرئيس زين العابدين بن علي. كان تاريخا حافلا من اعتقالات وسجن الصحفيين وإغلاق الصحف المستقلة والناقدة للسلطة.

 

رياح الثورة

جاءت الثورة وبادرت السلطات السياسية الانتقالية قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011 بدفع من نقابة الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني إلى سن تشريعات جديدة وقتية تعطي حماية أكثر للصحفيين وتمنع سجنهم في قضايا النشر وتمنح حرية إصدار الدوريات والصحف وتلغي شرط انتظار الترخيص القانوني المسبق الذي كان معمولا به قبل الثورة. في عام 2009، شنت الحكومة حملة ضد النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، بعد أن بدأت الأخيرة تنتقد الحكومة لتقييد حرية الصحافة ومعاملة قاسية للصحفيين. أدت الحملة إلى الإطاحة وتهميش المكتب التنفيذي الشرعي والمنتخب بشكل مستقل واستبداله بمكتب جديد مواليًا للرئيس.

 

أنصف التحول الديمقراطي الذي عاشته تونس نقابة الصحفيين التونسيين وأعاد الصحفيون التونسيون بأغلبية ساحقة الشرعية لمكتبها المُنقلب عليه. كانت نقابة الصحفيين التونسيين من أولى النقابات التونسية التي عقدت مؤتمرها العام بعد الثورة يومي 4 و5 جوان 2011. تمكن مكتب نقابة الصحفيين في تلك الفترة من إيجاد عناصر "كيمياء" التموقع المناسبة في الساحة النقابية والسياسية. كان عنوان هذه الكمياء كلمة مفتاح هي "الاستقلالية" مع تأكيد النقابة في كل مواقفها وقتها أنها جزءا أساسيا من المعركة السياسية حول الحريات في تونس.

 

في الحقيقة كان البروز السياسي لنقابة الصحفيين مستجيبا للروح الجديدة السارية في البلاد بعد الثورة والتي لعبت فيها النقابات وأساسا الاتحاد العام التونسي للشغل دورا مركزيا في إنجاح الثورة التونسية. خصوصية دور النقابات ومنظمات المجتمع المدني هو الذي مكن تونس من الإحراز على جائزة نوبل للسلام سنة 2015. خاضت نقابة الصحفيين في السنوات الأولى للثورة معركتها إلى جانب كل أطياف المجتمع المدني من أجل مجتمع حر وتعددي.

 

معركة الاستقلالية

فمنذ وصول الإسلاميين وحلفائهم إلى السلطة بعد انتخابات أكتوبر 2011 تسارعت وتيرة التعيينات المسقطة على وسائل الإعلام ومحاولات احتوائها. قامت الحكومة وقتها بتعيين عناصر قريبة منها سياسيا وايديولوجيا على رأس وسائل الإعلام العمومية ونصبت من ترى فيهم "موالين" على رأس ادارة بعض وسائل الإعلام المصادرة من قبيل جريدة الصباح اليومية واذاعة "شمس افم" والتلفزة الوطنية "دون أية معايير حقيقة ولا كفاءة" بحسب بيانات نقابة الصحفيين التونسيين.

 

إرادة إخضاع وسائل الإعلام لرغبات الحكومة عبر عنها بشكل واضح "حمادي الجبالي"، أول رئيس حكومة ينتمي إلى حركة النهضة الإسلامية بعد الثورة، عندما ادعى أن وسائل الإعلام لا تعبر على الواقع السياسي الجديد حيث قال يوم 19 ديسمبر2011 في تصريح له على الإذاعة الوطنية" إن وسائل الإعلام الآن لا تعبر عن الإرادة الشعبية المجسمة لنتائج الانتخابات"!

 

كانت قوة ردَة فعل نقابة الصحفيين بمقدار قوة الهجمة من الحكومة وأنصارها. تعددت الوقفات الاحتجاجية للصحفيين التونسيين بقيادة النقابة. ومضت حركة الصمود والتصدي للهجمة على استقلالية الإعلام إلى اقصاها من قبل نقابة الصحفيين التونسيين بالدخول في إضرابيين عاميين، هما الأولان في تاريخ البلاد، شلَا هذان الإضرابان كل وسائل الإعلام وأحرج الحكومة ودفعها إلى التراجع عن العديد من الاجراءات التي اتخذتها. نجحت الحركات الاحتجاجية والإضرابات التي خاضتها نقابة الصحفيين في فرض واقع اعلامي جديد في البلاد اقتنعت فيه الحكومة في تلك الفترة أنه لا بديل لها الا التحاور مع النقابة والقبول بدورها كضامن نقابي للإعلام الحر والمستقل في البلاد.

 

مأسسة نقابة الصحفيين

مع خروج نقابة الصحفيين من معركة الاستقلالية بشبه "نصر مؤقت" لان معركة الاستقلالية وحرية الإعلام هي مجهود متواصل ولا يتوقف على حكومة بعينها. تفطنت النقابة أن هناك معركة أخرى مصيرية لا تقل أهمية عن معركة الاستقلالية والدفاع عن حرية الإعلام وهي معركة أن تتحول النقابة إلى مؤسسة ذات ادارة قارة وهياكل منتخبة وحوكمة تمكنها من الادارة الداخلية الناجحة دونها لا يمكن أن تخوض بنجاح معاركها الخارجية. بناء ادارة قادرة على العمل بمعزل على طبيعة التداول والاشخاص الذين ينتخبون دوريا في مؤتمرات النقابة مثل نقطة الارتكاز التي بنُيت عليها عملية الحوكمة والمأسسة الجديدة داخل نقابة الصحفيين. فقد تفطن الفاعلون في الشأن النقابي بعد الثورة في تونس أن هذا الأمر مثل أحد نقاط ضعف العمل النقابي والجمعياتي.

 

الجميع بات يعتقد تقريبا في تونس أن نقابة الصحفيين تعيش مرحلة تحول مهمة ومتعددة الأبعاد في اتجاه استقرارها كمنظمة قوية، محترفة مستقلة مدافعة عن حرية الإعلام وعلى الحقوق الاجتماعية والمهنية للصحفيين
الجميع بات يعتقد تقريبا في تونس أن نقابة الصحفيين تعيش مرحلة تحول مهمة ومتعددة الأبعاد في اتجاه استقرارها كمنظمة قوية، محترفة مستقلة مدافعة عن حرية الإعلام وعلى الحقوق الاجتماعية والمهنية للصحفيين
 

"الفاهم بوكدوس" المدير التنفيذي الحالي للنقابة يقول أن هذا الامر ما كان لينجح لولا حزام المنظمات المحلية والدولية المهتمة بالتجرية النقابية الصحفية التونسية. ويضيف بوكدوس "كان لا بد من عقد شراكات دولية مع منظمات مختصة من أجل إنجاح هذا المسار الجديد" ويضيف بوكدوس" عقدنا شراكات استراتيجية طويلة الامد من أجل مراقبة تطور تجربة حوكمة النقابة وديمومة عملها". لقي إطار العمل العمل الجديد للنقابة استحسانا في صفوف غالبية الصحفيين غير أن الحوكمة والمأسسة يجب أن تكون بالنسبة للبعض منهم شاملة معتمدة اساسا على مقاييس علمية دون غيرها عندما يتعلق بقرارات معينة.

 

بين الدورين.. النقابي والسياسي

فضلا عن حوكمة العلاقات واتخاذ القرارات داخل هياكل النقابة، يشير بعض الصحفيين إلى انتقادات أخرى محورها في نظرهم "خفوت دورها السياسي والنقابي" الذي بلغ أوجه في السنوات الأولى للثورة. مثل "يوم الغضب" الذي نظمه المكتب الحالي للنقابة يوم 2 فيفري 2018 احتجاجا على الاعتداءات المتكررة ضد الصحفيين دليلا بالنسبة للمكتب الحالي للنقابة أنه لا تعارض بين تحقيق المطالب الاجتماعية والدفاع عن الحريات وانتقاد السلطات في تعاملها مع الصحفيين.

 

من خارج القطاع الإعلامي توجه الناشطة النسوية يسرى فراوس بعض اللوم في عدم انخراط نقابة الصحفيين بالشكل الكافي في معارك الحريات العامة والفردية وتقول بأن مواقف نقابة الصحفيين من بعض ملفات انتهاك الحريات الفردية والعامة هي "مواقف شحيحة" لأن حزمة حرية التعبير هي حزمة واحدة. نقد فيه الكثير من الجدل داخل دوائر المجتمع المدني، لأن مسألة الاختصاص في العمل الجمعياتي واهتمام كل منظمة بقطاع معين هو من جوهر دور كل منها دون أن ينفي إمكانية تناسقها وتكاملها.

 

رغم هذه الانتقادات، فإن الجميع بات يعتقد تقريبا في تونس أن نقابة الصحفيين تعيش مرحلة تحول مهمة ومتعددة الأبعاد في اتجاه استقرارها كمنظمة قوية، محترفة مستقلة مدافعة عن حرية الإعلام وعلى الحقوق الاجتماعية والمهنية للصحفيين. من الواضح ختاما، أن دور نقابة الصحفيين في تونس تجاوز مجرد التأثير في القطاع الإعلامي إلى المساهمة بشكل مباشر في إنجاح التحول الديمقراطي في البلاد. نحن أمام تجربة استثنائية يُنظر إليها في المنطقة العربية، كمثال يمكن الاحتذاء به ونموذجا "للتصدير".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.