شعار قسم مدونات

هل شجاعة الكتابة كافية لمواجهة الكابوس العربي؟

blogs الكتابة

تتداعَى على الأوراقِ أقلامٌ صاخبةُ الأشلاَء عابثيّةُ الفوضى، تنجرفُ من سيلِ المِحن التي تخلّفها الحياة في نُفوسِ أولئك الفارينَ من الواقع المر إلى الخيال العميق، من مُدنٍ عامرة إلى قُرى خاوية، من المجامعِ المُوحشة إلى الوِحدة المؤنسة، نازحينَ من كُل شيء إلى القلمِ والورَق وحِبر العابرين، ينسكِبُون كما تنسكِبُ قطراتُ الماء على النهر، يتّقدُ داخلهم ويتعالى كِبرياؤهم وتصحُو ضمائرهم، شبابيّتهم أيقظت حِسّ العزلة في بواطنهم، تأجّجت أكبادهم بالحرمان والتهميش، وجدُوا الملاذ والمهرب، استأنسوا بتلك المشاعر التي يتلُونَها قُرب صفحات مذكراتهم، سكراتُ موتٍ ينقلونها، أوجاعُ صُمود يحكُونها، أعماقُ إصرارٍ يبثّونها، أوهام شُبهٍ يتخطونها، آلامٌ يكبِتُون انفلاتها، صراخٌ يُراودون تمرُّده.. هي حياتهم لا مشارك لهم فيها ولا شأن لأحد بها.

الجرأةُ على الأوراق هي شجاعة لا يتحلى بها إلا القليل، والقليلُ كثير حين تعدّهم، فقليلُون جدًا من يُحسنون مصافحةَ القلم ويُدركون سُبلَ البوح له، من يجيدُون مداعبةَ الكَلِم وتراشقَ فيضِ معانيه، بل نادرة تلك الأرواح التي تَشِي بجوارحها، وتكشف جُرمها عاريًا أمام شهوةِ الحرف ونشوته، ذلكَ أن لحظة الصمود غبنةٌ معجزة قلّ من يتخطاها، لحظة الخلوة بالإرادة ومجالسة الإصرار، فريدة تلك النفس التي ترفع رداء الكتمان وتنصّبُ على كون الأسرار مسدلةً لستار الحياءِ ومعانقة لسوارِ البوح الألق، حيث تتزحزح صخرة كانت تقفُ على عتبة حاسّة النطق الداخلي عند هؤلاء، تتلبّسهم رغبةُ العطاء فجأة وتُقذف من أفواههم حِكمٌ من زمرّد الغيث عذبٌ زلال لا مُرّ فيه، ينقلُون التجربة وينحِتُون القصة ويتكبّدُون عناء المحاولة.

 

الإبداع بابٌ مفتوح لا مُغلِق له ولا متجرأ عليه، لكنّ صلابته لا يقوى عليها إلا النذر اليسير ممن قد صانوا له حق وأحاطوا بأشيائه وسيق لهم قبل أن يُساقوا إليه

خانتهم الحياة كثيرا، وأخلص في سبيلهم سوطُ القلم ونجواه، أغاثتهم الحُروف وقوالبها، أنجدتهم عُذوبة المعاني وترانيمُها، أنقذت بقائهم منايا العبر وآثار العبق وغوث المساكين، متعطشون للمعرفة وزادها، منكّبون على الفن ومُجاهِرون بالاختلاف، يستلهمُون من مسرحِ الطبيعة، خِطابهُم وعظ وجدّهم هزل وسخريتهم أدب، يُحدّثون المار بسكناهم عن مآثرِ الصدق وخذلانِ الغدر ورجاءِ الرحيل، يغازلون السماء ويهجون الطرق ويداهنون الأنفس، يقدّسون الرحلة نحو الأعماق، تجُول بخاطرهم نُقوش العثرات، تتّنهد جوارحهم وتٌفصح عن الألم، تفرج مكنونات مسودة وتظهر ندوب حارقة وتتجلى خيبات عفنة، هكذا تُملأ أوراقهم قبل أن تنقل إلى يد كل قلب، قبل أن يراها صاحبنا المكلوم حرقة، وتلتقطها فتاة الحانة لهفة ويتفقدها ناقد العزائم لحظة.

وبين هؤلاء وأولئك النفر لا بّد من إعمال نظر وتعمّق في سردِ ذِهنِيات الورَق وأبجدِيّات الحرف والمعنى، فليسَ الكل فارسًا لا بّد من شحذِ همّته والزجّ به في أرض معركةٍ لا ناقة لها فيه ولا جمل، لا حظّ له فيها وفي مآربها، فلنترك لكل منهم صبيّانيّته يمارسها كيفما شاء، وقتما شاء وأين شاء، لكن لا بد من همسة تُساق إلى قلبه بحب: على المرء أن لا يحشرَ أنفهُ فيمَا لا تُحسنهُ قدماه، فيجنيّ على نفسه تارة، وعلى بؤرةِ القداسَة تارات أخرى، فإن كان لي خاطر أهوى البوح عنه، أو الإفصاحَ عمّا يجول به، فلا ريبَ أن الورق وِجاءٌ لهذا وذاك، لكنّ أوراقك ليست كأوراق الجميع وليست لكل أحد، فما يفتحه الجميع يجب أن يناسب مشاربهم وأذواقهم ومستوى تطلعاتهم، وقبل هذا لا بدّ أن يكون قالبه مما أجيد قولبته وأحسنت صناعته كي يكون شيئا يستحق أن يراه المارون هنا وهناك، فلكل فنٍّ قوالب لا قيام له إلا بها، فلو طالَ أرض هذا الفن من هبّ ودبّ؛ فلابد أن تهُون منزلته وتتراجع هيبَتُه، وتنسَف قدَاستُه، فلمَ العبث بأشياء النهضة باسم أننا كلنا نجيد الإبداع؟

الإبداع بابٌ مفتوح لا مُغلِق له ولا متجرأ عليه، لكنّ صلابته لا يقوى عليها إلا النذر اليسير ممن قد صانوا له حق وأحاطوا بأشيائه وسيق لهم قبل أن يُساقوا إليه، ولكل فنّ رُوّاده ولكل سفينة ركّابها، فأن نقتحم ميدان الكتابة دون إذن ونتصدّر بتسرع للتسلط على مقاليدها فهذا بهتان وإفك مبين، فلا مفرَّ أن نُقَابلَ بخيبةٍ ونكسة، أن تتلقّفنا الأقلام الغائرة وتتصيّدنا الحناجر المخلصة، وحق لها ذلك دون رادع، فمن جنى على نفسه فلا سلامة تُرجى له ولحرفه المزعوم الذي يرمي به في غير محله وسكّناه، فللأرض حِماها وحاموها، وللبيت سكّانه وحُرّاسه، فلا قامت للمتسوّل شحا منزلة موهومة، ولا شدّ لأجله ترحيب مصطنع.

 

فمن حُسن عقلانيّة المرء أن يُدرك كُنهَ مُستواه، قبل الزجّ بنفسه في وحلٍ لا سُلطان له عليه، فوعيك بقداسة الفن، وإدراكك لعدم أهليتك ونضجك لدخوله بعد، سوف يلزمك تُقاةً لمدخلٍ لا مخرج له، فعليك نفسك وويحك أن تجنيّ على نفسها براقش تَبًّا على تبّها، فتقعد مذمومًا مدحورَا، لا مُزعَ على خدك ولا ماء على وجهك، فأقبِل راكحا مُسترسلا، وأعدّ لنفسك وجاءً مانعا، وقوي مكنون صدرك قلبا وقالبًا، تحصّن بالمعارف وتمكّن من رَصعِ الحُروف رواسيا، تأّلق وترّقى اليوم بعد الآخر، زدّ واستزّد، لا تتوقف عند شيء، والتهم دون شبع ولا اكتفاء، حارب الزمن وضاجع الصفحات نَهِمًا، تسلّى بالبوح وارتع بين طُرف المعتزلين، كن نفسك قبل أن تكون أيَّ أحد، تغذّى بالدُرر وتحلّى بالهِمّم، استبقِ الجُهد وسابق اللحظات، ضع نصبَ عينيك الغاية والطموح.

 

صرنا نرى الجُرأة على الكتابة من كُل حدبٍ وصوب، لا مُمسكَ ولا موقف ولا محاسب، كأنّها سُوقٌ للإبل لا ساسة لها، فهانت عزّتها وتلاشت عظمتها وخرّت قُدسيّتهُا
صرنا نرى الجُرأة على الكتابة من كُل حدبٍ وصوب، لا مُمسكَ ولا موقف ولا محاسب، كأنّها سُوقٌ للإبل لا ساسة لها، فهانت عزّتها وتلاشت عظمتها وخرّت قُدسيّتهُا
 

خذ وخذ وخذ، لا وقت لأن تعطي لأحد، حاجتك أشدّ وطمعُك غير قنُوع، فالمسعى إدراكُ نفسك قبل أن تدعُوا غيرك لأن يلتفت لها، آمن بالداخل وصارع البواطن واجعل القامات تخضع، تصفيقُ الصغار وظيفتهم الأبديّة، لا يُحسنون غيره البتّة، لكنّ الكبار لا يجيدُون التصفيق لأحد، يلتفتُون لمن هو بالقرب منهم، قريبٌ من جمال حُروفهم وروعة أسلوبهم وريادة أفكارهم، وكلما ابتعدت لم يكُن لكَ حظٌّ من نظرهم وقسط من إغرائهم، كلما انحدر مستواك عن حظوظهم لم تكن لتسمع نبرة من اهتمامهم، فهم لا ينظرون للأسفل أبدا، يمينا ويسارا فقط، فاختر المكان الذي يناسب إصرارك وعزيمتك. فالكيّس منا يعي نفسهُ ويسعى خلفَ مُراودة رغبته، فإما أن يصل ويرقى أو يعيش سعيدًا وكفى.

فلا تبخس نفسك حقّها وجالِد الليل والنهار، صارع المجد واخلوا بالكبرياء وتصنّعِ العزم، امضِ رُويدًا وخذ الموارد لُقمة سائغة، استبصر بالأشياء حولك، تعلم التأمل والنظر نحو الأفق، كوّن كَينُونتك وسطّر قدرك واصنع اسمك، بادِر بالمهم وناطح الأعلى من كل شأن وعاشر المعشُوق من كُل فن، أكثِر من تناول الكتب واشرع في عُمرانِ وعاء الفكر والأدب، جانِس العُلوم ومداركها، شابِه العُظماء ومناقبهم، تخاطر مع الشُعرَاء ودواوِينهم، ناظر السِيَر وأعلامها، وسايَر سُبل العزّ وتحاشى مناهل الذل والهوان، اجعل العلياء مهوى والدنيا مسرَح والحياةَ تمثيل والموت رِضا، وتعرّى للكِتابَة خاويًا تُلبسك من عباءةِ الأوسِ والخزرج.

الكابُوس العربيّ مُتجلٍ في أن يقتات الغرباء على قُوت ليس لهم، فغُربتهم عن الشيء مُوحشة، تجعلُه يبدُو قبيحًا وهو في أيديهم، فصرنا نرى الجُرأة على الكتابة من كُل حدبٍ وصوب، لا مُمسكَ ولا موقف ولا محاسب، كأنّها سُوقٌ للإبل لا ساسة لها، فهانت عزّتها وتلاشت عظمتها وخرّت قُدسيّتهُا، صارت مصرعًا للأذواق ومطحنةً للرُقيّ وسوطٌ على الثقافة وما حام حولها، فلمن المشتكى بربكم؟ جميعنا أرهصنا الأرواح وأغثينا النفوس وتكالبنا على مصانع الحرف المعفن كالحنظل لا خير فيه، وما إن يرفع الواحدُ منا إبهامه كي يقول كفى، حتى يُوصف بالجُمود والركود، ويتهم بالجُنون والعته، يُرمى بأوصافِ النذالةِ والحقارة، ويشار لهُ بالبنَان جُرمَا: ذاكَ قاتلُ الإبداع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.