شعار قسم مدونات

إسقاط المقاتلة الصهيونية.. فرحة واجبة لا صك غفران

مدونات - إسقاط الطائرة الإسرائيلية

كان صباحا مباركا حقا، ذاك الذي حمل خبر إسقاط مقاتلة "إف 16" الصهيونية، آلة القتل التي طالما صبّت جحيمها على رؤوس الأطفال في المدن والضواحي والمخيمات، ولم ينجُ من لهيب صواريخها بيت ولا مدرسة ولا مسجد ولا مستشفى ولا حتى مؤسسة دولية.

   

منذ ثلاثين عامًا تصولُ مقاتلات "إسرائيل" وتجول في فضاءاتنا، تقصفُ بلا حساب، وتفرُّ بلا عقاب، منذ اثنتين وثلاثين سنة، لم يطرق الآذان خبرٌ كهذا: "إسقاطُ مقاتلةٍ صهيونية نفاثة"، فلا عجب إذن أن تكون الفرحة استثنائية، وجامعةً لفرقاء ربّما اختلفوا على كلّ شيء غير كراهية "إسرائيل".

   

 اختلفت الروايات حول حقيقة ما جرى، هناك الرواية الرسمية السورية عن عُدوانٍ صهيوني على سوريا، قوبل بتصدٍّ من المضادات الأرضية السورية، أدّى إلى إسقاط الطائرة، تؤيدها الرواية الإيرانية الرسمية، إذ نأت بالجمهورية الإسلامية عن الحدث، وادّعت أنّه لا علاقة لها بالمناوشات الجارية بين العدو الصهيونيّ وبين الجيش السوريّ، مع التأكيد على أنّ ما جرى دفاع سوريّ مشروع، وأنه لا مواقع لإيران ولا قوات تابعة لها في سوريا، إنما هو دعمٌ استشاريّ تقدمه بناءً على طلبٍ رسميّ من النظام السوريّ!

     

أيًّا كانت حقيقة ما جرى، فإنّ الأمر انتهى على هزيمةٍ مركّزة رهيبة لسلاح الجوّ الصهيونيّ، كان حُطام الطائرة يتساقط، ومعه تهوي هيبةُ "إسرائيل"

الرواية الصهيونية تقول: إنّ إيران سيّرت طائرةً بلا طيّار، اخترقت المجال الجويّ للأرض المحتلة، فأسقطها الجيش الصهيوني، ثمّ أرسل مقاتلاته لتقصف مواقع إيرانية داخل سوريا، انطلقت منها الطائرة المزعومة، الأمرُ الذي نفته إيران كليًّا.

     

قد يكون ما زعمه الصهاينة باطلًا بالكلية، ولا يعدو كونه محاولة لعدّ الانتهاكات على إيران، أو لتخفيف أثر المهانة التي لحقت بها، بالقول: إنّ دولةً في حجم "إيران" وإمكاناتها هي التي أسقطت الطائرة، لا الجيش السوريّ المتهالك الغارق في حربٍ أهلية طاحنة. أما إن صحّت الرواية فإنّ ذلك يُفسّر الحدث الاستثنائيّ، إذ طالما قصفت الإف 16 في عمق الأرض السورية، واكتفت دمشقُ بالاحتفاظ بحقّ الرد.

     

نعم، إذا صحّت المزاعم الصهيونية، فإنّ الأمر كان تنبيهًا ذكيًّا من إيران، على كون استباحة الطيران الصهيوني للأرض السوريّة لا يشملُ الأهداف الإيرانية، وأنّه كان على جيش الاحتلال أن يكتفي بإسقاط الطائرة المسيّرة المزعومة، دون التجاوز بقصف عقابيّ، لقد كان الأمر -إن صحت المزاعم- رفضًا للعقاب، وإعادة رسمٍ لقواعد اللعب على أرض سوريا وفي أجوائها، ويبدو أن "إسرائيل" قد وافقت بمهانة على هذه القواعد.

   

أيًّا كانت حقيقة ما جرى، فإنّ الأمر انتهى على هزيمةٍ مركّزة رهيبة لسلاح الجوّ الصهيونيّ، مفخرة الجيش الذي لا يُقهر، وسوطُه الذي يُلهب به ظهور العُزل والمستضعفين، والدول التي لا حول لجيوشها ولا قوة، كان حُطام الطائرة يتساقط، ومعه تهوي هيبةُ "إسرائيل"، وكثيرٌ من قوة ردعها، وميزان القوى الذي جاهدت للحفاظ عليه وتعزيزه عقودًا مديدة.

   

على جهةٍ أخرى، كانت الفرحة الغزّية مميزةً جدًّا بما جرى، هذه المقاتلات المجرمة قتلت ذات حربٍ مئات الأرواح في أقلّ من ساعة، وروّعت أهل غزّة مئات المرات، دمّرت بيوتهم على رؤوسهم تارةً، وأمام أنظارهم المتحسرة تارات، ولم تتركهم دون ترويعٍ أو إرهاب في كل تصعيد، إن لم يكن بالقصف، فبالاستعراض وخرق حاجز الصوت.

   

كانت فرحةً كبيرة ومفهومة، لولا بازار التصريحات الرسمية المبالغة الذي أقيم على شرف إسقاط الطائرة، تصريحات كان يكفي نصفُ واحدٍ منها، بلغ بها الأمر إلى إعلان المقاومة الاستنفار الكامل استعدادًا لأي تطورات تتعلق بما يجري شمال فلسطين المحتلة. هكذا واصل متحدثون باسم المقاومة الفلسطينية الانكباب الأهوج، الذي تُمارسه تجاه إيران في السنتين الأخيرتين، لأسبابٍ مفهومةٍ ومشروعةٍ جدًّا برأيي، لكن بطريقةٍ بعيدةٍ من الفطنة والكياسة، والسياسة المتزنة، ولا تؤتي أكلها في غالب الأحيان.

       undefined

   

إنّ التصريحات التي خرجت موحيةً باستعداد المقاومة الفلسطينية لتحويل غزة إلى ساحة حربٍ فور اشتعال صراعٍ مع إيران، هي مبالغةٌ كبيرة جدًّا، فيها إشعارٌ بنوع ارتهانٍ للداعمين، وقد يُفهم منها عدم مبالاة بدماء الغزيين، وهذه غزة خاضت حروبًا ثلاثًا وحدها، فهل أطلق أحدٌ من حلفائها رصاصة!

              

لستُ ضدّ أن تشتعل الجبهاتُ كلّها على العدوّ الصهيونيّ، بل هو غاية المنى ومنتهى الأحلام، غير أنّ ذلك ينبغي أن يكون متوازنًا بين الحلفاء، على السواء أو قريبًا منه على الأقل، لا فضل فيه لطرفٍ على طرف، أو لدمٍ على دمٍ بالأحرى، وهذا ما ينبغي على المقاومة الفلسطينية أن تأخذه بعين الاعتبار، وتعيد حساباتها، والنظر في تصريحاتها الأخيرة مرّةً أو اثنتين.

   

أما أسوأ ما صاحب الحدث العظيم، فهو استغلاله لتبييض صفحة النظام السوريّ، الذي صمت عن الصهاينة أكثر من أربعين سنة، وهو منذُ سبع سنين يسوم شعبه سوء العذاب، لم يُبق وسيلة لقتل العزل المظلومين إلا وسلكها؛ من الأسلحة الكيماوية حتى البراميل المتفجّرة العشوائية، فأراد كثيرٌ من شبّيحته أن يغسلوا هذا كلّه بإسقاط الطائرة الصهيونية، مقارنين بينه وبين أنشطةٍ تطبيعية وخيانية انكشفت مؤخرًا، تورّط فيها تيارٌ محسوبٌ على الثورة السورية، معروفٌ بتبعيته لقوى إقليمية متصهينة أصلًا.

   

لقد قلناها من قلب غزة، وقالها غيرنا كثيرٌ من الطيبين: لو كان تحرير فلسطين يتحقق بذبح السوريين، فبئس التحرير هو، ولو حطّم المجرمون الآثمون كلّ طائرةٍ للعدوّ، وبارجةٍ وغواصة ودبابةٍ ومدفعٍ وبندقية، ما غسل ذلك شيئًا من عارهم، ولا طهّر أيديهم من دماء الأطفال والنساء والشيوخ الذين ذبحوهم.

   

إنّ إسقاط المقاتلة الصهيونية فرحةٌ كبيرةٌ، ومفخرة لكل من ساهم فيه، كائنًا من كان، لكنّه ليس صكّ غفرانٍ يوهب له، ولا شهادة بصحة الموقف أو استقامة المسار، والله أعلم، وهو من وراء القصد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.