شعار قسم مدونات

ثيودور كازنسكي.. العبقري الراديكالي

blogs تيد كازنسكي

ثيودور كازنسكي، أو كما أطلقتْ عليه الـ FBI لقب The Unabomber وهذا اللقب هو اختصار لـ University and Airlines Bomber، تفاصيل حياة هذا الرجل معقّدة ومليئة بالجدل، وقد تمّ إنتاج عمل يروي قصة حياته، والذي تم عرضه مؤخرا على الموقع العملاق Netflix، كانَ نشاط كازنسكي ما بين 1978 إلى 1995 وقد أخذ شكلا راديكاليا ذكيا، مستخدما طرود بريدية مفخخة، يدوية الصُنع، وأسفرَ هذا النشاط عن قتل 3 أشخاص، وجرح 23 شخصا.

في بداية التحقيقات، لم تُدرك الـ FBI نمط التفجيرات، وبقيت لسنين طويلة تظن أنها تفجيرات عشوائيّة، وفوضوية لا أكثر، وأن كازنسكي مجرد إرهابي راديكالي دون رؤية وفلسفة بالمرة، ولم تكن تملك أي شيء للتعرف عليه أساسا، إلى أن جاء المحقق جيم فيتزجيرالد، ولتبدأ الملحمة والمطاردة بعدها، والتي أخذتْ طريقا مختلفا تماما، وذلك حين أرسلَ كازنسكي الـ Maniefsto الخاصّ به، والذي يحمل عنوان The Industrial Society and Its Futrue إلى الـ FBI وقدْ طلبَ حينها أن يتم نشره ليقرأه عامة الناس، وقد هدد بأن يُفجر مرة أخرى إن لم يتم نشره! 

ومن هنا أبدأ بالحديث عن هذا البيان الذي أعلنه كازنسكي والذي تمّ نشره بالفعل، فأنا لست بصدد الحديث عن المسلسل، فبالرغم من قوة هذا العمل، ولكن وكما قال صديق لي: إن المسلسل لم يركز كثيرا على كازنسكي، وفعلا كان الضوء مُسلطا على المحقق وعلى ذكائه في القبض على كازنسكي، ولم يُوضح المسلسل أن كازنسكي بطل مأساوي، إن استعرنا بيجوفتش في وصفه للمجرم وبطولته المأساوية وأسقطناها عليه.

تُضَخ الماركات والدعايات بشكل مرعب كلَّ يوم لأصناف لا حصر لها، وذلك لتجعل الاستهلاك باقيا وبتطرّف، وهذا يُبقى الموظف عبارة عن آلة تعمل فقط لتلبية احتياجات التكنولوجيا الصناعية الفتّاكة

يبدأ كازنسكي بيانه في دحض اليسار جملة وتفصيلا، أو كما سماها بال Liftism، واللافت في تفكيكه لليسار هو عرضه لمصطلحاتهم في المقام الأول، وأن انتقاءهم لهذه المصطلحات لا ينمُّ إلّا عن عقد نقص واضحة، صريحة، ومفضوحة إلى حدّ ما، وأنّ ما أسماه بالتحكّم الذاتي والذي ينشدونه دائما لا يكون إلا من خلال ادعاءات وهرطقات كاذبة إلى حين وصولهم للسلطة، وعندَ حصولِ هذا، تنقلب الأيدولوجيا بتعريفها الوردي، لتصبح دكتاتورية، صميمها في الاستبداد السياسي، وقدْ ضرب مثالا بالبلاشفة ولينين وما فعلوه إبّان ثورتهم المزعومة حينذاك.

أسهبَ كازنسكي كثيرا في الحديث عن اليسار في بداية البيان وفي نهايته، وبشكل أو بآخر بيّن أن اليسار ما هو إلا توجه خطير جدا، ولن يكون فيه أيُّ خلاص، ويتطرق بعدها إلى سوء استخدام السلطة، والتحكم الذاتي لدى أفراد المجتمع الصناعي التكنولوجي، وما ينجم عنها من أزمة في الهويّة أو كما في لغتها الأصليّة (Identity Crisis)، وقد عرّفها على أنها بحث عن المنطق في معنى الحياة، واسترسل بعدها ليقول: وهذا يكون على شكل التزامات أو خيارات بديلة لإضفاء هذا المعنى، أما المعنى الحقيقي فلا مكان له تحت مظلة التكنولوجيا المفروضة من حكومة أميركا ونظامها، وأضاف إلى ذلك أنّ المواطن الأميركي ليس سوى تابع أو بتعبير آخر عبد لربّ العمل الذي يعمل لديه، وأنّ تحقيق أهدافه جميعها مرتبطة بتحقيق أهداف عمله فقط لا غير.

يٌعلّق كازنسكي بعدها على أنّ هذه الأزمة تأخذ شكلها على السائد بالضرورة أو الـ (Mainstreamm) وأنّ الطبقة الكادحة الفقيرة لنْ تكون ضمن هذا التحليل، وهذا يعود لسحر الماركات والدعايات التي تُضَخ بشكل مرعب وكل يوم لأصناف لا حصر لها، وذلك لتجعل الاستهلاك باقيا وبتطرّف، وهذا يُبقى الموظف عبارة عن آلة تعمل فقط لتلبية احتياجات التكنولوجيا الصناعية الفتاكة على حد زعمه.

بيان كازنسكي زخم جدا، والإحاطة بكل ما كتب ضرب من المستحيل في مقال واحد فقط، ولكن ما ذكرتُ هنا وما سأذكر هو صميم ما كان يريد طرحه، يقول كازنسكي معلّقا على المجتمع الصناعي الأميركي مقتبسا من هيو جراهام وتيد روبرت اللذين قاما بتحرير كتاب In Violence in America Historical and Comparative Perspectives، إنّ المجتمع الأميركي قبيل الثورة ضد الإنجليز كانوا أكثر حريّة واستقلالية، وإنّ الثورة أدت إلى هذا المجتمع الصناعي التكنولوجي والذي فُرض قسرا للتضييق على الأفراد، لينتهي إلى نظام هدفه سلب الحريّات وإعطاء تعريف وردي من قبلهم على أن الحريّة ستكون على هذا الشكل فقط.

إحدى النقاط المهمة أيضا، هي "Symptoms resulting from disruption of power"، أنّ أي أهداف ينشدها الفرد خلال حياته ولا يستطيع تحقيقها إلا من خلال جهد مضاعف، ستؤدي إلى ملل شديد، وهذا بالضرورة -كما يقول كازنسكي- سيؤدي إلى اكتئاب وإحباط واضح في حياته، وبالتالي فقدان احترامه لذاته وفقدان ثقته بنفسه أيضا، وإن وصلنا لهذه الأعراض، فالكارثة ستكون في العنف الناتج عن كل هذا بمختلف أشكاله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سنرى القلق، اضطرابات في النوم، والنهم في الجري وراء المتعة والشهوات المختلفة: من جنس، وطعام…الخ.

هذا الرجل الذي حصّل درجة 163 في اختبار الـ IQ هو عبقري مجهول في قومه، على غرار مالك بن نبي، ولا عجب أن عقلا كهذا سيخط ما خط في بيانه!
هذا الرجل الذي حصّل درجة 163 في اختبار الـ IQ هو عبقري مجهول في قومه، على غرار مالك بن نبي، ولا عجب أن عقلا كهذا سيخط ما خط في بيانه!
 

والآن سأنتقل إلى طرح كازنسكي في ما يخص العصابات بشكل عام، كالـ "Aryan Brothers" أو العصابات المنظّمة من قبل السود، أو الجماعات التي لا تنتمي للنظام كالـ "Amish" والغجر، فيقول هنا إنّ هذه التنظيمات هي أحد كوابيس الأنظمة، وذلك لأنها حرّة بالمطلق وليست لها مرجعية للنظام أبدا، وأنّها تملك من الولاء المنقطع النظير داخلها، وقد ضرب مثالا على ما حدث في الصين، فعندما أرادوا فرض الحداثة في الصين، فأول ما قاموا به هو تفكيك الولاء داخل الأسر في المقام الأول، ليكون هذا الولاء للدولة وللدولة فقط، وكما قال Sun Yat-sen يحتاج الصينيون إلى وطنيّة جديدة، وهذا يكون بتحويل ولائهم للعائلة ولينصب في مصلحة النظام، ويقول Li Huang الترابطات الأسرية التقليدية، يجب أن يتمّ التخلّي عنها، وهذا إن أردنا للوطنية أن تتطور ويصبح لها قدم وساق في الصين.

لقد تعمق كازنسكي كثيرا، وأوغل في تفكيك مخاطر المجتمع الصناعي التكنولوجي والمادي أيضا، وأقولها صراحة، وبغض النظر عن راديكاليّة الرجل واستخدام هذه الراديكاليّة لفرض ما يقول، إن هذا الرجل الذي حصّل درجة 163 في اختبار الـ IQ هو عبقري مجهول في قومه، على غرار مالك بن نبي، ولا عجب أن عقلا كهذا سيخط ما خط في بيانه! ولعل يوما ما ستكون أفكاره سببا في اجتثاث هذا العفن، وأقول ناسفا لكل ما فعلته التكنولوجيا لنا وما ستفعل، ما قاله الرياضي Claude Shannon: I visualize a time when we will be to robots what dogs are to humans… and I’m rooting for the machines.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.