شعار قسم مدونات

عند غياب الوعي الأمني

blogs أحمد نصر جرار

ملهمة هي صور الأبطال في شتى أحوالهم، أولئك الذين خرجوا مطاردين في أحضان أوطانهم، لا لشيء سوى لأنهم يقاومون محتلا غصب أرضهم. يتسابق الناس، ومن قبلهم وكالات الأنباء في نشر الفيديوهات والصور التعريفية الخاصة بهم، من لحظة خروجهم مطاردين، وحتى ساعة استشهادهم؛ فالكل متشوق لمعرفة هوية البطل، الكل يحتاج للتأمل في صوره، ومعرفة أدق التفاصيل عن حياته، ورفاقه، وكل المناسبات التي حضرها، وكل الأماكن التي ذهب إليها، كل ذلك وأكثر لأن الناس تحتاج لمن يلهمها، ويوقظ فيها شعور العزة، والكرامة، وأنه ما زال هناك أبطال بيننا، يقدمون حياتهم في سبيل أوطانهم، يقاومون المحتل، يواجهونه بصمود راسخ يتحدى آلته العسكرية المتغطرسة. هذه الصور وتلك الفيديوهات عن المقاوم بالغة الأثر في النفوس بالفعل، تعطي شعورا غامرا بالأمل نحو غد أفضل، تنمحي معه ذكرى الاحتلال وسنينه المؤلمة.

لكن هذا كله بالنسبة لمن قعد يراقب بشغف هذه الصور، باحثا بين طياتها عن ذلك الإلهام الضائع بين مشاغل الحياة المتلاحقة. وماذا بالنسبة للمطارد المقاوم، الذي ارتقى شهيدا بعد أيام، أو أسابيع، تزيد أو تقل، تبعا لساعة المعركة الأخيرة؟ هل تساءل أحدهم عن الظروف الصعبة التي يمضيها مطاردا متخفيا من قرية إلى أخرى، يتوارى عن أنظار احتلال رصد كل أجهزته للنيل منه تارة، وعن أعين عملاء يتسابقون في الحصول على أية معلومة تدل على مكانه وتحركاته تارة أخرى؟

والمطارد في كل ذلك يحتاج إلى لقيمات يقيم بها أوده في أيامه العصيبة، مطاردا، وحيدا، قد يضطر لشرائها والبحث عنها في مدن وقرى يعرف الكل بعضهم فيها، فإذا دخل عليهم من هو ليس من سكان قريتهم أو مدينتهم، انهالوا عليه بالأسئلة الفضولية، والاستطلاعية.. في ظل هذا المشهد، هل تساءل أحدهم ماذا سيكون أثر هذه الصور المعرفة بالمطارد، عوضا عن الفيديوهات الخاصة به، التي يتسابق الناس بنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، حتى تصبح معها أدق التفاصيل عنه معروفة للجميع، من محبيه، ومؤيديه، إلى أولئك الباحثين عن الإلهام في قصص الأبطال، وصولا إلى ملاحقيه من أجهزة الاحتلال، وعملائهم، وعيونهم المزروعة في كل قرية ومدينة!

البطل الذي خرج وروحه على كفه، يقدم شبابه رخيصا في الدفاع عن أرضه ووطنه، عرف طريقه ووجهته، وعندما تحين ساعة المعركة الأخيرة يلقاها مقبلا غير مدبر
البطل الذي خرج وروحه على كفه، يقدم شبابه رخيصا في الدفاع عن أرضه ووطنه، عرف طريقه ووجهته، وعندما تحين ساعة المعركة الأخيرة يلقاها مقبلا غير مدبر
 

في سنوات خلت، قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كان الاحتلال يبذل جهدا مضنيا في الحصول على أية معلومة، صورة، خيط رفيع يوصله للمقاوم المطارد. أما الآن فقد قام بالمهمة عنه أناس أهمهم إشباع حاجتهم للإلهام من صور الأبطال وقصصهم، فقاموا مسرورين بالتسابق بنشر صور البطل من لحظة الإعلان عنه مطلوبا للاحتلال، دون أدنى وعي لأثر ذلك في تسريع الوصول إليه، إذ لن يمكنه التخفي بعد ذلك، فالكل يشير إليه بالبنان في صفحات التواصل الاجتماعي، ولعل أحد المعجبين به يصيح مسرورا إن رآه هنا أو هناك، كيف لا! فهذا هو البطل!

نعم، هو كذلك، البطل الذي خرج وروحه على كفه، يقدم شبابه رخيصا في الدفاع عن أرضه ووطنه، عرف طريقه ووجهته، وعندما تحين ساعة المعركة الأخيرة يلقاها مقبلا غير مدبر، فهذا ما كان ينتظره ويستعد له، فإن اختاره الله شهيدا، فهو اصطفاء وكرامة، وإن كان دون ذلك، فهذا حال المقاومين والمناضلين على مر التاريخ. لكني لا أعتقد البتة أنه كان ينتظر ممن يدعي صدقا أو تملقا دعمه ونصرته، أن ينشر صوره، وتفاصيل حياته على صفحات التواصل الاجتماعي، ولسان حاله وهو "يستلهم" البطولة من صوره يقول للاحتلال: ها كم كل ما تحتاجونه!

الأمر المستفز حقا في هذه الحال، أن الجميع يتحسر ويتألم على عدم قدرته تقديم أي عون للبطل، الكل يتابع أخبار المطارد قاعدا آمنا ممسكا بهاتفه الذكي يتابع نشر الصور والتقارير، منتظرا خبر ساعة المعركة الأخيرة، ليقوم بعدها بمزيد من النشر، لكن هذه المرة لصور الشهيد الذي ارتقى وحيدا، بعد مواجهة بطولية مع جند للاحتلال، أدركوه في مأمنه، وهو يسعى جاهدا للإفلات من قبضتهم، كيف لا! فحياته ثمينة، وإن قدمها رخيصة فدى الوطن، وأمنه ضرورة، وإن علم أنه واقع بين كرامة الشهادة، وخطر الاعتقال، هو يعلم كل ذلك، فضلا عن علمه بقعودنا خلفه، فهل علمنا نحن أنه لم يكن قعودا خلفه بقدر ما كان خذلانا له، بغياب أبسط أبجديات الوعي الأمني!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.