شعار قسم مدونات

الاعتقال السياسي.. أداة الدولة الديكتاتورية

BLOGS القمع
لا تجد الأنظمة الديكتاتورية إمكانية أخرى للتعامل مع المعارضين سوى استعمال الاعتقال السياسي، كحل لتطهير الساحة السياسية من المختلفين مع توجهها الذي تتبناه في تسيير أمور الوطن. بل يتحول الإعتقال السياسي لديها إلى ضرورة بالمفهوم الفلسفي، فلا تجد بدا من استعمال هذه الوسيلة لتجاوز أية أزمة يُحدثها عدم التفاهم، الذي يتبدى بوضوح انطلاقا من الاحتجاجات والتظاهرات، التي تُنظمها الجهات المعارضة للنظام القائم.
 
إن غياب العقل التواصلي (بالمفهوم الهابرماسي) في الدول الديكتاتورية، يجعل للاعتقال السياسي، قيمة بنائية للمُكون السياسي الذي تُسير به أمور الوطن، فيصبح بذلك أمرا مقبولا ومشروعا باسم الحفاظ على الأمن. فماذا يعني هذا؟
إن الدولة الديكتاتورية لا تستطيع أن تفتح حوارا يستوعب جميع الأطياف المتعارضة والمُختلفة معها، للتواصل بينها وبينهم بالأدلة العقلية والمنطقية من أجل الوصول إلى الحل العقلي، الأكثر مقبولية، منطقيا. فلماذا لا تستطيع ذلك؟
لأن الأسس التي بُني عليها النظام الديكتاتوري هي أسس غير عقلية، لا يمكنها أن تصمد أمام الأدلة المنطقية التي يُمكن أن يُقدمها المعارضون، لهذا تتفادى أي حوار وأي نقاش يتبنى السياق العقلي في أدلته السياسية.
 

يعمل القضاء تحت غطاء القانون، حتى يجعل من الإعتقال فعلا مشروعا قانونيا، بل يُحَوّْله من مصطلح "الاعتقال السياسي" إلى مصطلح "الاتهام القانوني"

بالفعل، لا تستطيع الدولة الديكتاتورية أن تصمد أمام البناء العقلاني، ولا تستطيع استعمال هذا البناء لتبرير أفعالها، وإنما تعمل باسمه (أي باسم هذا البناء) حتى تظهر بلباس الدول المتقدمة، النجيبة في تكريس الديموقراطية في نظامها، من أجل الحفاظ على سمعتها داخل المحافل الدولية.
 
تقوم الدول الديكتاتورية على القوة، فتعتمدها كحق شرعي باسم الأمن، وتقديم الجماعة على الفرد، رغم أن الجماعة التي تقصدها، هي الجزء المستفيد فقط، من هذا النظام، وليس جل الأطياف.

 
إن شرعية القوة (أو حق القوة بالمفهوم الفلسفي)، هي التبرير المهم، أو المبدئي، الذي تُسوق له الدولة الديكتاتورية حتى تستطيع الحفاظ على كينونتها المهددة بالانهيار، فتعمل من أجل ذلك، بجعل هذه القوة عبارة عن أمر طبيعي، وليس شيئا دخيلا يتجاوز الإنسانية، وإنما هي ضرورة طبيعية، استُعملت عبر التاريخ، وليست ميزة خاصة بدولة عن أخرى. إنها عنف شرعي (حسب ماكس فيبر) تستعمله الدولة من أجل الصالح العام.
 
لن نناقش هنا إشكالية استعمال العنف المادي من طرف الدولة، وإنما سنتحدث عن الاعتقال السياسي، كشذوذ عملي في استعمال العنف. طبعا الاعتقال السياسي هو امتداد للعنف المادي الذي تستعمله الدولة، ولكن؛ حتى وإن قبلنا بمشروعية العنف المادي عند الدولة فإن الاعتقال السياسي يبقى أمرا مستهجنا، نظرا لمسه حرية الأفراد عن طريق سجنهم أو التضييق عليهم، وأيضا نظرا لمس كرامتهم عن طريق نشر الإشاعات عنهم، أو تعذيبهم داخل السجون. 
 
تعمل أجندة الدولة الديكتاتورية بما لديها من قدرات بشرية ومادية، لتبرير اعتقال شخص ما، حتى يُصبح مس حريته وكرامته أمرا مقبولا من طرف الرأي العام. وذلك باتهامه بأمور لا يتسامح معها هذا الرأي، كتهمة تدنيس المقدسات (مقدسات الدين، أو مقدسات الوطن أوالقومية)، أو تهمة الخيانة (التخابر مع العدو..) أو الإرهاب (مع أن هذه التهمة لها تأثير بسيط على الرأي العام). تُجنِّد الدولة من أجل ذلك، ثلاث أجندات لإنجاح الاعتقال السياسي، وشرعنته، وجعله ضرورة تفرضها المرحلة. وهي الإعلام والقضاء والمثقفين المزيفين أو الانتهازيين.
 
بالنسبة للإعلام، فإن له تأثيرا مروعا على نفسية المشاهد الذي يُشكل جزءا من الرأي العام، وكلما كان الإعلام متمددا وسط الطبقة الشعبية، ويستعمل لغتها العامية، إلا وأصبح تأثيره جد فعال ومستمر. يُحاول الإعلام، أن يُضفي على الاعتقال السياسي، نوعا من الطبعنة (نسبة للطبيعة)، فبتكرار الحدث أو الفعل، مع إرفاقه مع تبرير شرعي (كمحاربة الخوارج) أو عامي (كمحاربة المؤامرة أو الحفاظ على الأمن)، يُصبح هذا الحدث أو الفعل أمرا طبيعيا، لا تستهجنه نفسية المواطن، مما يجعله لا يتعاطف مع المُعتقل السياسي، أو يستهجن أفعال الدولة، حتى وإن كانت جرائمها مروعة في حق هؤلاء.
 
الاعتقال السياسي يحمل دلالات مهمة، وهي أن المُعتقل السياسي له صوت يتجاوز الجدار الصوتي للدولة الديكتاتورية، وأن القضاء لم يبلغ بعد سن الرشد ليستقيل بنفسه
الاعتقال السياسي يحمل دلالات مهمة، وهي أن المُعتقل السياسي له صوت يتجاوز الجدار الصوتي للدولة الديكتاتورية، وأن القضاء لم يبلغ بعد سن الرشد ليستقيل بنفسه
 
أما بالنسبة للقضاء، فإنه يعمل تحت غطاء القانون، حتى يجعل من الاعتقال فعلا مشروعا قانونيا، بل يُحَوّْله من مصطلح "الاعتقال السياسي" إلى مصطلح "الاتهام القانوني"، فيصبح المتعقل السياسي متهما، تُلاحقه قضايا قانونية، لا بد من الفصل فيها. وبما أن القضاء ليس مستقلا تحت مظلة النظام الديكتاتوري، فإن الفصل يكون قبليا وليس بعديا، فتبقى الجلسات مجرد مسرحية من تأليف الطاغوت، وفي نفس الوقت، إشهارا لإضفاء صفة العدل عليه (أي على الطاغوت).

أما المثقفون الانتهازيون أو المزيفون (كما يُسميه باسكال بونيفاس)، فإنهم يُجنَدون إعلاميا، لتبرير الاعتقال السياسي منطقيا، حتى تكون له مكانة وسط الطبقة المتعلمة. فهؤلاء المثقفون يُحاولون أن يُسوقوا للأمر من باب عقلاني يتجاوز الميتافيزيقا والواقعية الساذجة، ويعطي أرضية أخرى، تتعامل بالأدلة، التي تكون غالبا أدلة مصطنعة، يتم تقديمها للوصول إلى نتيجة، كانت أصلا هي البداية. يعني أنهم ينطلقون من مسلمة بدَهية، ويبحثون لها عن أدلة تؤيدها، متغاضين عن الأدلة المعارضة، ثم يصلون إلى النتيجة التي يرغبون فيها.

 
حتى أنهم يقدمون أدلة مصطنعة لا أساس علمي أو تاريخي لها، غير آبهين بالآراء التي ستتدخل لتصحيح المغالطات، لأنهم يعلمون بأنهم تحت رحمة الطاغوت المتحكم في زمام الأمور. وهذا يتأكد لهم عندما يحتكرون البلاطويات داخل الإعلام، باستبعاد الأراء المخالفة، ليُصبحوا بذلك كهنة العصر الحديث. 
 
كل هاته المحاولات التي يقوم بها النظام الديكتاتوري لتبرير استعماله للاعتقال السياسي، تحمل دلالات مهمة، وهي أنه لا يستطيع الاستغناء عنه كوسيلة للاستمرار، وأيضا لا يمكنه أن يتخلى عن الرأي العام، كمؤيد لأي فعل يتبناه.
أما الاعتقال السياسي نفسه، فيحمل ثلاث دلالات مهمة، وهي أن المُعتقل السياسي، له صوت يتجاوز الجدار الصوتي للدولة الديكتاتورية، وأن القضاء لم يبلغ بعد سن الرشد ليستقيل بنفسه، ولن يبلغه، ما دام النظام الديكتاتوري قائما، أما الدلالة الثالثة فهي أن النظام الديكتاتوري لا يستطيع أن يصمد أمام منطقية الحوار الحضاري، فيلجأ إلى وسائل بدائية أكل عليها الدهر وشرب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.