شعار قسم مدونات

تحيزات البخاري!

blogs البخاري

ثمة فرضيّة تقول: إن الإمام محمد بن إسماعيل البخاريّ (ت256هـ) كان حريصًا على جمع أحاديث محددة في قضايا بعينها تؤكد قناعاته الدينية المُسبقة، ما يُضفي طابعًا متحيزًا (أيديولوجيًّا) على جَمعه للأحاديث التي ضَمَّنها صحيحَه. فهل كان البخاري مُتحيّزًا بالفعل؟ وهل جمَع في صحيحه أدلة مذهبِه؟ هذا ما سأناقشه في هذا المقال المكثف.

 

يمكن معالجة الفرْضية من خلال ثلاثة احتمالات: الأول: أن نفترض أن للبخاري مذهبًا فكريًّا سابقًا سينعكس من خلال انتقائه لأحاديث معينة، والثاني: أن أحاديث صحيحه ستقودنا إلى إدراك مذهبه المستتر، والثالث: أن دوافعه المُضمَرة ستجعل من صحيحه نافرًا عن بقية مدونات الحديث السابقة أو المعاصرة له أو اللاحقة به، وستكون أشدّ منافرةً إذا ما افترضنا أن بقية المحدّثين أيضًا لهم دوافعهم، ومن ثَمَّ ستتعارض دوافع كل واحد منهم وتختلف. وسأعالج هذه الاحتمالات الثلاثة – معًا – في نقاط محددة.

 

أولاً: لا نعرفُ للبخاريّ مذهبًا فقهيًّا محددًا، وهو ما دفع بعضَ الشافعية إلى عَدّه في طبقات الشافعية كما فعل تاج الدين السبكي (771هـ)، ودفع بعضَ الحنابلة إلى عَدِّه ضمن طبقات الحنابلة كما فعل ابن أبي يعلى (526هـ). والصحيحُ أنه لم يكن شافعيًّا ولا حنبليًّا، وإن كان عرَف أحمد بن حنبل ودرس فقه أهل الرأي وفقه مالك، وتَفَقَّه على بعض أصحاب الشافعي، وذكر الشافعيَّ في موضعين من صحيحه، ولكنه لم يَرْوِ عن أحمد (241هـ) ولا عن الشافعيّ (204هـ) في الصحيح.

 

لو كانت أحاديث صحيح البخاري مَسوقة لخدمة مذهبٍ واحدٍ لَما أمكن للمذاهب الفقهية الأربعة أن تَحتجَّ بها لخدمة آرائها، فكثيرً من الأحاديث التي رواها البخاري يَستدل بها الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي

ثانيًا: العنوان الأصلي لصحيح البخاري هو: "الجامع المُسنَد الصحيح المُختَصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، وطريقةُ الجوامع في التصنيف هي التي تَجمع أحاديث في جميع أبواب الدين دون اختصاصٍ بمجال دون آخر، ولذلك سُميت جوامع، فهي تحتوي على أحاديث في العقائد والأحكام والسِّيَر والآداب والتفسير والفتن وأشراط الساعة والمناقب وغيرها.

 

ثالثًا: لو تأملنا أحاديث البخاري في الصحيح سنجد أنه حفَل بتعددية في المعنى (ربما ظنها غيرُ المتخصص تناقضًا)، فأحاديثه لا تسير في خدمة رأي واحدٍ، وتظهر هذه التعددية من خلال عدة أمور: منها: تفريقه للحديث الواحد على أبواب متعددة وبأسانيد مختلفة أحيانًا، ومنها: أنه يخصص أبوابًا (تُسمى "تَراجم") يُوْرد فيها الأحاديث المتعارضة، وفي بعضها يبيّن وجه الجمع بينها إِن سَنَح له، وفي بعضها الآخر يكتفي بصورة المعارَضَة تنبيهًا على أن المسألة اجتهادية.

 

ولا بد من التنبيه إلى أن من تَراجم البخاري ما لا علاقة له بالأحكام الفقهية، ومنها ما يتضمن سؤالاً أو استفهامًا، ومنها تراجم وصفيّة لا تتضمن رأيًا، كقوله: (باب مَنْ رفَع صوته بالعلم)، ومنها ما صرَّحت بالحكم منسوباً لقائلٍ معروفاً كان أو غيرَ معروف، كقوله: (باب مَنْ لم يَرَ الوضوء إلاّ من المَخْرجين)، و(باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسَّوِيق). وقد درَس ابن المُنيِّر (683هـ) أربعمئة ترجمة "متوارية" من تراجم البخاري وخلَص إلى القول: إنه "ساق الفقهَ في التراجم سِيَاقَة المُخْلِص للسنن المحضة عن المُزَاحِمِ، المُسْتَثِير لفوائد الأحاديث من مكامنها". وهناك ستة كتب انصرفت لدراسة تراجم البخاري، كتبها ناصر الدين بن المنيّر، ومحمد السِّجِلماسي، وابن جماعة، وابن رشيد السبتي، وشاه ولي الله الدِّهْلِوي، ومحمد أنور شاه الكشميري.

 

وقد قسّم شيخنا العلامة نور الدين عتر تراجم البخاري إلى أربعة أقسام هي: (1) التراجم الظاهرة التي تُطابق الأحاديثَ تحتها صراحةً، (2) والتراجم الاستنباطية التي تحتاج إلى تأمل ونظر، (3) والتراجم المُرسَلة التي لم يُعَنْوِنْ بشيء يدل على مضمونها، (4) والتراجم المُفْرَدة وهي تراجم لا يُخْرِجُ البخاري فيها شيئًا من الحديث للدلالة عليها.

 

رابعًا: لو كانت أحاديث صحيح البخاري مَسوقة لخدمة مذهبٍ واحدٍ لَما أمكن للمذاهب الفقهية الأربعة أن تَحتجَّ بها لخدمة آرائها، فلو تَتَبعنا كتبَ أحاديث الأحكام لوجدنا كثيرًا من الأحاديث التي رواها البخاري يَستدل بها الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، بل إننا وجدنا شُرّاح صحيح البخاري ينتمون إلى مختلف المذاهب الفقهية: الشافعي كابن حجر، والحنفي كبدر الدين العيني، والمالكي كابن العربي، والحنبلي كابن رجب، وهؤلاء مجرد أمثلة فشراح البخاري كثيرون، كما وجدنا كل المذاهب الفقهية تخصص كتبًا لآيات الأحكام وتستدل بها لمذهبها وقد احتمل النص القرآني كل تلك المعاني والمذاهب.

 

خامسًا: الفرضية التي افتتحتُ بها مقالي تتجاهلُ نشأة "علم الحديث" بوصفه صناعةً، ولذلك تنوّعت مناهج مدونات الحديث تنوعًا شديدًا يمكن لنا حصرها في أربعة:

 

(1) التصنيف على الأبواب (الموضوعات): ويشتمل على عدة طرائق منها: كتب (الجوامع) كصحيحي البخاري ومسلم (261هـ)، وكتب (السنن) وهي التي تجمع أحاديث الأحكام مُرَتّبة على أبواب الفقه كالسنن الأربعة وهي سنن أبي داود (275هـ) والترمذي (279هـ) والنسائي (303هـ) وابن ماجه (273هـ)، وكتب (المصنَّفات) وهي كتبٌ مرتبة على الأبواب ولكنها تشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كمصنف عبد الرزاق (211هـ) ومصنف ابن أبي شَيبة (235هـ)، وكتب (المستَدرَكات) وهي الكتب التي يَستدرك فيها مؤلِّفها على كتابِ آخرَ أحاديثَ تكون على شرطه، وأشهرها المستدرَك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (405هـ)، وكتب (المُستَخرَجات) وهي كتبٌ يروي فيها مؤلفها أحاديث كتاب معين بأسانيد لنفسه يلتقي في أثناء السند مع صاحب الكتاب الأصل في شيخه أو مَن فوقه كالمُستخرَج على البخاري لأبي بكر الإسماعيلي الشافعي (371هـ)، والمستخرَج على صحيح مسلم لأبي نُعيم الأصبهاني (430هـ)، وكتب (المَجامع) وهي كتبٌ تجمع أحاديث عدة كتب من مصادر الحديث كجامع الأصول لابن الأثير الجزري (606هـ) جمع فيه أحاديث الصحيحين وموطأ مالك وسنن أبي داود والترمذي والنَّسَائي.

 

(2) التصنيف على العلل: وهي كتبٌ تجمع في كل حديث طرقَه واختلافَ نَقَلته، كالعلل الكبير للترمذي والعلل للدارقطني (385هـ).

 

(3) التصنيف على الشيوخ: وهي كتب تَجمع حديث كل شيخ على انفراده، كمعاجم الطبراني (360هـ) الثلاثة (الكبير والأوسط والصغير).

 

(4) التصنيف على المسانيد: وهي كتبٌ تجمع في ترجمة كل صحابي ما رُوي عنه من أحاديث؛ صحيحًا كان أو غيرَ صحيح، كمسند أحمد بن حنبل (241هـ) وهو أوسع مدونات الحديث.

 

لسنا أمام صنيع أفراد، وثمة تقاطعات بين بعض أصحاب المدونات الحديثية، فمسلم والترمذي تَتَلمذا على البخاري، والبخاري كان على صلة بأحمد بن حنبل، وأبو داود تتلمذ على أحمد، وهكذا
لسنا أمام صنيع أفراد، وثمة تقاطعات بين بعض أصحاب المدونات الحديثية، فمسلم والترمذي تَتَلمذا على البخاري، والبخاري كان على صلة بأحمد بن حنبل، وأبو داود تتلمذ على أحمد، وهكذا
 

فهذه المناهج تُحيل إلى الصنعة الحديثية أولاً، وهي لا تدور على مركزية الفكرة (الرأي) ثانيًا؛ لأنها مدفوعة بهاجس الرواية والإسناد ومعايير التوثيق الحديثي لا المذهب العقدي أو الفقهي، وفيها كتبٌ سابقةٌ على البخاري وأخرى معاصرةٌ له وثالثة لاحقةٌ عليه، وثمة قدرٌ مشتركٌ بينها في الغالب يَضيق ويتسع بحسب طبيعة الكتاب ومقاصد مؤلِّفه وما إذا كان يَشترط جَمع الصحيح فقط أو الحديث النبوي فقط (المرفوع)، أو ما إذا كان يهدف إلى جمع مروياته بأسانيده (بغض النظر عن حكمه على الحديث).

 

ولو فرضنا أن البخاريّ أو غيره كانوا مدفوعين بدافع مذهبيّ محدد، فإن فكرة وجود مستدركات (إضافات) ومستخرَجات (رواية المتون نفسها بأسانيد أخرى) تُبطل هذا الظن؛ إلا إذا افترضنا أن هناك توطؤًا من الجميع على المذهب الواحد وهو ما يُبطل – بدوره – فكرة التحيز أيضًا!

 

ولا بد أن نشير هنا إلى منحىً شديد الأهمية، وهو أن العلماء بعد الصحيحين اعتنوا بتجميع الحديث النبوي متجاوزين مركزية الصناعة الإسنادية ومركّزين على المتون، ومن هنا نشأت فكرة جمع الكتب الستة (صحيحا البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي)، واختلفوا في السادس: هل هو موطأ مالك أو سنن ابن ماجه؟ والأكثرون على أنه سنن ابن ماجه؛ لأن المعيار في هذا التسديس هو النظر في المتون والزيادات على ما في الكتب الخمسة، فموطأ مالك رغم أنه أصحّ – وكل ما فيه صحيح – إلا أن زياداته على الكتب الخمسة قليلة جدًّا، ولذلك قدموا عليه سنن ابن ماجه رغم أن فيه أحاديث ضعيفة على اختلاف درجة ضعفها.

 

سادسًا: تَتَبع جمهرة رواة الحديث يُحيل إلى شبكات اجتماعية مترابطة ومتباعدة بحسب الشيوخ والبلدان، كما يُحيل إلى شبكات من التلمذة والتقليد العلمي (المشيخات)، ما يعني أننا لسنا أمام صنيع أفراد، وثمة تقاطعات بين بعض أصحاب المدونات الحديثية، فمسلم والترمذي تَتَلمذا على البخاري، والبخاري كان على صلة بأحمد بن حنبل، وأبو داود تتلمذ على أحمد، وهكذا، وبما أن كل واحد من هؤلاء كان له كتابٌ جمع فيه الحديث على شرطه ولكلٍّ منهم زيادات على الآخر، فإن هذا يُبطل فكرة التحيز؛ خصوصًا أن ثمة تقاطعات بينهم جميعًا وأخرى بين بعضهم وبعض، ولو فرضنا أن بعضهم تحيز وأهمل أحاديث لدوافع فكرية (لا نقدية) فإنه كان هناك فرصة للثاني والثالث أن يستدرك ويزيد، ثم أمكن بعد ذلك تسديس الستة لجمع أكبر قدر من الحديث النبويّ.  

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.