شعار قسم مدونات

الحق في انتقاد إسرائيل

مدونات - ماكرون ونتنياهو
هل يحق للمثقفين الفرنسيين انتقاد إسرائيل في بلادهم؟ هذا السؤال طرح مؤخرا عقب نشر مجموعة من المثقفين الفرنسيين عريضة احتجاج يتساءلون فيها عما إذا كان يحق لهم انتقاد إسرائيل، والتنديد بازدرائها للقانون الدولي، والاحتجاج ضد سياساتها الظالمة للشعب الفلسطيني، وذلك في الوقت الذي يزداد فيه الظلم والتعنت الإسرائيليين من خلال سياسة الاستيطان، والضم القسري للأراضي الفلسطينية المحتلة، وإعادة تشكيل طبيعة الدولة الإسرائيلية اليهودية القائمة على سياسة الفصل العنصري والتمييز العرقي والتفوق الديني لمعتنقي الديانة اليهودية.
 
ما يجعل المثقفين الفرنسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في فرنسا يطرحون مثل هذه العريضة في البلد الذي يعتبر مهد الحريات، هو الخوف الذي أصبح ينتاب كل مثقف أو سياسي أو ناشط جمعوي فرنسي يجرؤ على انتقاد السياسات العنصرية والظالمة لإسرائيل. فكل انتقاد لإسرائيل اليوم في فرنسا قد يعرض صاحبه للشتم وحملات التشويه والضغط ومحاولات الترهيب والاتهام بمعاداة السامية، مما أدى إلى ترسيخ نوع من "الخوف والرقابة الذاتية" عند أغلب المثقفين.
 
وهذا الخوف غير المعبر عنه يطال حتى السياسيين والبرلمانيين الفرنسيين، فقد وجد برلمانيون فرنسيون أنفسهم ممنوعين من طرف حزبهم "الاشتراكي" من زيارة إسرائيل في شهر نوفمبر الماضي، فقط لأن جدول عمل الزيارة كان يتضمن طلب لقاء مع القيادي الفلسطيني مروان البرغوتي المعتقل في السجون الإسرائيلية.
 

التخوف الذي بات ينتاب شريحة واسعة من المثقفين والسياسيين له ما يبرره، لأن هناك في فرنسا من يدفع إلى جعل كل انتقاد لإسرائيل بمثابة جريمة يعاقب عليها القانون الفرنسي

العريضة التي وقعها كبار المثقفين الفرنسيين حذرت مما بات يشكله هذا الحظر الذي تمارسه لوبيات الضغط الصهيونية على كل انتقاد لسياسات الدولة العبرية الظالمة على حرية الرأي والتعبير في الدولة التي توصف بأنها "بلد الأنوار".

 
السؤال الذي يتردد اليوم بقوة في بعض وسائل الإعلام التي لا تخضع لسيطرة اللوبي اليهودي الفرنسي، ليس جديدا، فقد سبق أن طرحته منظمة "مراسلون بلا حدود"، دفاعا عن الصحفي الفرنسي دانييل ميرميت، من إذاعة "فرنسا الدولية" وصاحب برنامج "لو كنت هناك" الذي تعرض لمحاكمة في بلاده عام 2002، فقط لأنه أنجز سلسلة روبورتاجات إذاعية من إسرائيل والقدس وغزة، اعتبر "اللوبي الصهيوني" أنها تضمنت تصريحات "معادية للسامية"، وانتهى الأمر بوقف برنامج الصحفي وفصله من الإذاعة التي اشتغل بها أكثر من ربع قرن.
 
لذلك فإن التخوف الذي بات ينتاب شريحة واسعة من المثقفين والسياسيين والناشطين، له ما يبرره، لأن هناك في فرنسا من يدفع إلى جعل كل انتقاد لإسرائيل بمثابة جريمة ترقى إلى "معاداة السامية" التي يعاقب عليها القانون الفرنسي. فقد سبق لرئيس وزراء فرنسا السابق ومرشح الرئاسة الاشتراكي إمانويل فالس أن شبه عام 2016 معاداة الصهيونية (وهي إيديولوجية عنصرية) بمعاداة السامية، معتبرا أن "معاداة الصهيونية هي في أصلها رفض لإسرائيل، وغالبا ما تكون قناعا لمعاداة السامية"!
وقبل فالس وحكومته الاشتراكية، سبق للرئيس الفرنسي اليميني نيكولا ساركوزي أن أصدر قانونا يجرم حظر بيع البضائع الإسرائيلية في فرنسا، التي تعد اليوم الدولة الأوروبية الوحيدة التي يجرم قانونها الدعوة إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية، بما فيها تلك التي تأتي من المستوطنات.
  
ماكرون ونتنياهو  (الجزيرة)
ماكرون ونتنياهو  (الجزيرة)

  
ومؤخرا، أي في شهر يوليو / تموز عام 2017، وقف الرئيس الفرنسي الحالي إمانويل ماكرون إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامن نتنياهو، الذي كان يخاطبه بعبارة "عزيزي بيبي"، في ختام مراسم الاحتفال بالذكرى 75 لحملة "فال ديف"، التي استهدفت أكثر من 13 ألف يهودي عام 1942 إبان الحقبة النازية، متعهدا بأنه لن يتنازل أمام "معاداة الصهيونية" التي اعتبرها الشكل الجديد من "معاداة السامية"!

 
وردا على هذا الخلط في المفاهيم الذي يحاول بعض السياسيين التسويق له محاباة للوبي اليهودي الفرنسي، أو بسبب جهلهم المعرفي، أصدر المؤرخ الفرنسي دومنيك فيدال كتابا تحت عنوان "معادة الصهيونية = معاداة السامية؟ ردا على إمانويل ماكرون"، تصدى فيه لهذا الخلط المتعمد ما بين أن يكون المرء رافضا للصهيونية باعتبارها "حركة سياسية عنصرية"، ومعاداة السامية التي يعتبرها القانون الفرنسي جريمة لا تحتمل حرية الرأي.
 
وبموازاة مع هذا الإصدار، أصدر المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس، كتابا تحت عنوان "معادٍ للسامية"، يحكي فيه تجربته الشخصية وما تعرض له من ابتزاز وترهيب بدعوى معاداته للسامية، وهي التهمة الجاهزة لدى اللوبي الصهيوني في فرنسا لإخراس كل صوت حر يجرؤ على انتقاد الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، والتي قد تتحول إلى "حملة شيطنة"، تصل إلى حد "التهديد بالتصفية الجسدية"، كما يورد بونيفاس الذي سبق له أن أصدر عام 2003 كتابا مماثلا تحت عنوان "هل من المسموح انتقاد إسرائيل؟"، وذلك على إثر استقالته من الحزب الاشتراكي الذي كان ينتمي له، بعد أن وجه رسالة إلى رئيس الحزب آنذاك، الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند ينتقد فيها مواقف الحزب الموالية لإسرائيل، مما كلفه إقالته من إدارة "معهد الدراسات الدولية الإستراتيجية"، الذي كان يرأسه، وقطع التمويل العمومي عنه.
 
ما أحوجنا اليوم إلى مفكرين شجعان من قامة المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي الذي تصدى للفيلسوف الفرنسي الكبير جون بول سارتر منتقدا ازدواجية مواقفه المساندة لإسرائيل التي قامت على أكبر ظلم تاريخي
ما أحوجنا اليوم إلى مفكرين شجعان من قامة المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي الذي تصدى للفيلسوف الفرنسي الكبير جون بول سارتر منتقدا ازدواجية مواقفه المساندة لإسرائيل التي قامت على أكبر ظلم تاريخي
 

ما يتعرض له، اليوم، الكثير من المفكرين والمثقفين الفرنسيين الشرفاء من حملات "اغتيال فكري" ممنهج لا يجد له أي صدى في المنطقة العربية من تضامن ومساندة يحتاجها هؤلاء المفكرون، بل لا يجد لها صدى حتى لدى مثقفين عرب مقيمين في فرنسا أو حاملين لجنسيتها يكتبون بلغتها، فقد ولى الزمن الذي كان فيه المفكرون العرب وخاصة المغاربيين يتصدون بشجاعة لآراء ومواقف مثقفين فرنسيين ينفذون أجندة اللوبي الصهيوني في فرنسا.

 
ما أحوجنا اليوم إلى مفكرين شجعان من قامة المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي الذي تصدى للفيلسوف الفرنسي الكبير جون بول سارتر منتقدا ازدواجية مواقفه المساندة لإسرائيل التي قامت على أكبر ظلم تاريخي وتلك المؤيدة لحقوق الإنسان، وما زال كتاب الخطيبي "فوميتو بلانكو"، الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان "دموع سارتر"، عبارة عن سجال تاريخي يكشف زيف وعي الفكر الصهيوني والمدافعين عنه.
 
عنوان كتاب الخطيبي الصادر في منتصف سبعينيات القرن الماضي والمستوحى من سفر يوحنا "هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي"، مازال آنيا بأفكاره وأطروحاته يفتح محاكمة الحقيقة الفكرية والسياسية للمفارقات التي قامت عليها الإيديولوجية الصهيونية، ويكشف زيف وعي المدافعين عنها واصفا ذلك بـ "الوعي التعيس"، الذي تحول إلى عملة رائجة في كل مكان.
 
علاقة بنفس الموضوع، وفي الوقت الذي يوقع فيه مثقفون فرنسيون كبار عريضة تنادي بالحق في انتقاد إسرائيل وسياساتها الظالمة، أقرأ خبر قيام "صحفيين" مغاربة بزيارة إسرائيل بدعوة "كريمة" من وزارة خارجيتها، وذلك في الوقت الذي تحاكم فيه طفلة فلسطينية اسمها عهد التميمي، هي وأمها، لا لشيء إلا لأنها دافعت بشجاعة وبيديها العاريتين عن حرمة بيتها من هجوم جنود الاحتلال الصهيوني، وفي الوقت الذي تعلن فيه الإدارة العنصرية الأميركية عن نقل سفارتها إلى القدس المحتلة لتكريسها عاصمة أبدية للكيان الصهويني. إنه "الوعي الشقي" نفسه الذي حاربه الخطيبي، وأصبح اليوم يتقيؤه الكثير من المطبعين الجاهلين بحقائق التاريخ والفاقدين لحاسة الضمير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.