شعار قسم مدونات

الصحوة الدينية من المسجد إلى الكنيسة في مصر: البدايات

BLOGS الدين

في يوم الثلاثاء 2 إبريل الموافق 1968، تكرر ظهور العذراء على جدران وقباب بعض الكنائس الأرثوذوكسية في حي الزيتون، وعندما سئل الأنبا غريغويوس أسقف البحث العلمي عن سبب هذا الظهور قال "لأجل تعزية المصريين في محنتهم".

 

كانت مصر بعد هزيمة 67 تمر بحالة من "فقدان الذات"، بوصف ريتشارد هرير دكمجيان، في كتابه "الأصولية في العالم العربي" أو بحالة "الموت الجماعي"، بتعبير عالم الاجتماع المصري سيد عويس، الذي ذكر في كتابه "هتاف الصامتين" أنه في لحظة الموت تلك كان طبيعيا أن يلوذ الشعب بالدين.

 

تحدثت الصحافة في تلك الأيام عن أن الرئيس عبد الناصر ذهب لكنيسة الزيتون ليشاهد العذراء، وكثيرون مسلمين ومسيحيين ذهبوا للمشاهدة، ليس من المهم حقيقة ظهور مريم من عدمه. المهم أن هناك من يقول إنه شاهد، ولا تعني المشاهدة أن مريم ظهرت، لكن تعني أننا أمام "مُشاهد" لديه احتياج لمعجزة، وعطش لدعم روحي واجتماعي وهذا الاحتياج هو الذي أدى لهذه القناعة.

 

ظهر كتاب "معالم في الطريق" لـ "سيد قطب" كصيغة احتجاج ديني ضد سيطرة الحاكم الذي ينازع الله في حاكميته، وعندما قرأ عبد الناصر الكتاب، كتب على ظهره "هذا الكتاب وراءه تنظيم"

لجأ الشعب للدين أو لاذ به حتى يستمر ويبقى. لم يكن أمامه مشروع أو بديل كما يقول المفكر رفيق حبيب، كان الدين ضرورة، ليس للفرد العادي بل أيضا للسياسي كما فعل عبد الناصر الذي أبدى الكثير من مظاهر التدين في تلك الفترة، ولم يكن اللجوء إلى السماء إسلاميا فقط، بل ومسيحيا أيضا، حيث بدأت تلوح بوادر من التدين الإحيائي عند الكنائس المسيحية بكل طوائفها، في بعث روحي شديد.

 

كان من رأي الدكتور ميلاد حنا وهو مفكر قبطي، بأن هزيمة يونيو أيقظت أحاسيس التدين لدى المصريين عموما والأقباط خصوصا، فالرجل في حديث لي قال:" لقد انكسرنا وعندما انكسرنا ذهبنا للكنيسة".

 

وكلام الدكتور ميلاد قد يصيب البعض بالدهشة، فكل صاحب دين عادة ما يكون مستغرقا في ذاته، وأحيانا لا يدرك أن جاره صاحب الدين الآخر قد يعيش نفس الاستغراق، بمعنى أنه ربما تُنتج السياقات المتشابهة التي تمر بها الأديان، أنماطا متشابهة من التدين.

 

ويمكن القول إنه قبل الهزيمة بدأت تلوح نذر تلك العودة المذهبية للإسلام بتعبير دكمجيان. ففي منتصف الستينيات كان المجتمع المصري في مفتتح دورة دينية إحيائية جديدة، وعادة في بداية الدورات الإحيائية تبدو ظواهر التدين أشد انفعالا وأكثر ميلا للخوارق وانتظارا للمفاجآت.

 

وهذا ما نلاحظه من توقيت إخراج عالم الاجتماع سيد عويس دراسته المعروفة حول تحليل ظاهرة "إرسال الرسائل إلى الإمام الشافعي"، وهي ظاهرة معروفة في المجتمع المصري، حيث يلجأ قطاع مهمش من المصريين لتحقيق آمالهم وتخفيف مظالمهم عبر رسالة إلى الشافعي.

 

في نفس توقيت صدور هذه الدراسة، ظهر كتاب "معالم في الطريق" لـ "سيد قطب" كصيغة احتجاج ديني ضد سيطرة الحاكم الذي ينازع الله في حاكميته، وعندما قرأ عبد الناصر الكتاب، كتب على ظهره: "هذا الكتاب وراءه تنظيم".

 

وهذا دقيق، كان وراءه تنظيم 65 المعبأ بأفكار قطب حول ضرورة إنهاء حضارة الإنسان لإحلال حضارة الله، اللافت أن أحد الكُتاب في العهد الناصري بحسب ما جاء في كتاب "النبي والفرعون" لـ "جيلز كيبل"، اعتبر قطب متأثرا بالبروتستانت الإحيائيين، والحقيقة أنه تشابه سببه قانون الدورات الدينية التي تخضع له الحركات الدينية الإحيائية، فأفكار ارتقاب حاكمية الله قد تكون قريبة من فكرة انتظار حاكمية المسيح ونزوله للحكم الألفي، بحسب ما قال المفكر رفيق حبيب في دراسة مبكرة عن الإحياء الديني.

 

لاحظ غالي شكري بكتابه
لاحظ غالي شكري بكتابه "الثورة المضادة" النمط الحركي في تدين بعض الأقباط واعتبر أن ثمة محاولات لإعادة إحياء "جماعة الأمة القبطية" التي نشأت في نهاية الأربعينيات وكانت متأثرة بجماعة الإخوان المسلمين
 

يرى دكمجيان أنه في الستينيات سيطرت فكرة العودة للإسلام في صورته الأولى، حيث طرح قطب سؤال العقيدة على المصريين المسلمين وكان هذا مدهشا، لكنه يتواءم مع فكر الإحياء الأصولي الذي يقوم على العودة للجذور النقية للدين، وتميل بعض اتجاهات تلك العودة إلى إعادة إنتاج حركة دينية تمشي على نفس خطوات الدين في مراحله الأولى. وفي حالة الإسلام كانت هناك قراءة تحاول السير بالتدين الجديد داخل أجواء تشبه المرحلة المكية ثم المدنية، وقراءة السيرة قراءة تنظيمية حركية، وكأن لحظة التدين هي لحظة دين جديدة.

 

تحكي الأستاذة زينب الغزالي في كتاب "أيام من حياتي" عن رغبة صميمة في استئناف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من جديد، عبر انتخاب قلة مؤمنة تُربى لثلاثة عشر عاما، تماثلا مع الفترة المكية، وعندما طالعت أوراق قضية مؤسس "جماعة المسلمين" شكري مصطفى وجدته يستخدم تعبير "الهادي الأول"، وهو الشخص المنتخب لإعادة إنشاء المجتمع الإسلامي الجديد.

 

وبالنسبة للكنيسة فقد كانت تمر بحالة من الصحوة الدينية، لاسيما مع صعود تيار مدارس الأحد الإحيائي سلم الهرم الكنسي، خصوصا مع ترسيم الأنبا شنوده والأنبا صموئيل، والأنبا غريغوريوس، كأساقفة للكنيسة. اللافت أن جيل البابا شنودة من الرهبان التكنوقراط من جيل مدرسة الأحد مروا بما يمكن أن نطلق عليه تجاوزا بالمرحلة "المكية" أو الرهبنة المتوحدة، ثم عادوا في منتصف الستينيات، حيث رُسموا أساقفة كبارا من أجل التمكين لأفكارهم الإحيائية في المرحلة "المدنية".

 

كان "درس الجمعة" في الستينيات داخل الكاتدرائية العباسية يؤكد على معاني البعث الروحي الجديد للكنيسة، كان الألوف يتقاطرون لسماع أسقف التعليم الأنبا شنودة الذي صار كاريزما للشباب القبطي خاصة نهاية الستينات، وقد كتب هيكل عن هذه الظاهرة في كتابه "خريف الغضب". توجت هذه النزعة الروحية المسيحية بعودة رفات القديس مارمرقس الرسولي مؤسس الكنيسة المصرية من روما، وفي احتفاء مهيب دفن في القاهرة، وقد مثل رمزية ميلاد جديد.

 

برز في السبعينيات صراع المؤسسات الدينية بين الكنيسة والأزهر، والبابا شنودة، والشيخ الأكبر عبد الحليم محمود، الذي تبنى نماذج الأسلمة من الجماعات الدينية وقدم مشروعا للدستور الإسلامي للدولة

ومع بداية عقد السبعينيات بدأت مرحلة أخرى من موجات التدين هي مرحلة الحركة، حيث صار المسرح معدا للجيل الجديد في الكنيسة، وبدأت تتبلور الحركات الإسلامية، وكذلك نزوع مسيحي للالتفاف حول قيادات دينية من خارج الكنائس، فالتدين في السبعينيات لم يعد جزءا من ميل شخصي بسبب الأزمات، وأضحى يحاول التعبير عن نفسه حركيا.

 

لاحظ غالي شكري في كتابه "الثورة المضادة" هذا النمط الحركي في تدين بعض الأقباط في تلك الحقبة واعتبر أن ثمة محاولات لإعادة إحياء "جماعة الأمة القبطية" التي نشأت في نهاية الأربعينيات وكانت متأثرة بجماعة الإخوان المسلمين، وكان شعارها "المسيح غايتنا والانجيل دستورنا"، وأنها وإن كانت قد حُلت -أي "جماعة الأمة"- فإنها لم تنته ولم تنفصل عن ذهنيات بعض الأقباط، بل ظلت "وجدانا هائما"، يبحث عن بدائل جديدة للتجسد، وهي تتوارى خلف أي جماعة انعزالية. قرر السادات أن يخرج جماعة الإخوان في منتصف السبعينيات، ليبدأ لقاء جديدا بين الهائمين الجدد من المسلمين والأقباط.

 

حيث خرج التدين الإسلامي والمسيحي من إسار الفرد إلى الحركة والعمل وسط الشباب داخل المدارس والجامعة، وكل دين له حركته وله تفسيراته الحركية الخاصة، فكانت لجنة التوعية الدينية الطلابية الإسلامية ثم الجماعة الإسلامية، وكذلك كانت الأسر القبطية والأكشن جروب البروتستانتية، وكل حركة بقدر ما هي محافظة أكثر هي سلفية أكثر وأكثر.

 

وازدهرت المعسكرات الروحية لدى الإسلامين والمسيحيين والمؤتمرات والمخيمات التي تقيمها الاتحادات والكنائس، وكانت الكنيسة الإنجيلية مميزة بنوعية تلك المخيمات خصوصا في بيت السلام بالعجمي، والذي لعب دورا كبيرا في هذه الصحوة، حيث كان يختلي الشباب مع القادة الدينيين من أجل النهوض بهم روحيا وثقافيا.

 

كان تدين السبعينيات يغلب عليه الوعظ والشحن العقائدي، نشط فيه عدد من الوعاظ: كشك والمحلاوي وزكريا بطرس ومنيس عبد النور، وماكس ميشيل. يقدمون عددا من الشعارات والتفسيرات الدينية حول الخلاص والتوبة والفلاح بالعودة إلى الله أو الامتلاء بروح القدس أو التكريس الكامل لله، وعظ هدفه إزاحة قلق الجماهير وتوترها.

 

في ختام السبعينيات، توحدت الجماعات الدينية والقوى السياسية والكنيسة في موقف رافض للتطبيع مع إسرائيل، ثم صدام شهير مع السادات، تم تحديد إقامة الأنبا شنودة في الدير
في ختام السبعينيات، توحدت الجماعات الدينية والقوى السياسية والكنيسة في موقف رافض للتطبيع مع إسرائيل، ثم صدام شهير مع السادات، تم تحديد إقامة الأنبا شنودة في الدير
 

وتدين السبعينات هو تدين المواجهة والاحتجاج، ففي عام 1972م، ولعلها المرة الأولى التي تحرك الأقباط فيها في مظاهرة من 400 شخص بعضهم بملابس دينية كهنوتية، بعد أن اتفق مجمع الكهنة بالقاهرة بإقامة الصلوات بمقر الجمعية التي أحرقت بالخانكة، سيرا على الأقدام مرددين التراتيل، وكان اللافت هو التعبير بالاحتجاج السلمي من خلال طقس ديني، وهذا ما ينبغي الإشارة إليه وهو أن الكنيسة والأقباط لم يكن لديهم ميل للعنف المادي أو شرعنته دينيا على غرار ما حدث مع الجماعات الإسلامية خلال تلك الحقبة. لكن يُلاحظ أن هذا السلوك في الاحتجاج ضد الدولة بدأ من الكنيسة قبل احتجاج الجماعات الدينية والتيارات الجهادية العنيفة ضد الدولة والمجتمع في السبعينيات والثمانينيات، وهذه مفارقة.

 

كذلك برز في السبعينيات صراع المؤسسات الدينية بين الكنيسة والأزهر، والبابا شنودة، والشيخ الأكبر عبد الحليم محمود الذي تبنى نماذج الأسلمة من الجماعات الدينية وقدم مشروعا للدستور الإسلامي للدولة، فضلا عن تبنيه لأفكار تطبيق الشريعة الإسلامية، وتم الرد عليه بمؤتمر قبطي شهير عقد تحت رعاية البابا نفسه عام 77، وقد بدت في بنوده مظاهر سلفية مسيحية مثل الحديث عن الأقباط "أقدم وأعرق سلالة" في الشعب المصري، فضلا عن رفض لأي مشروعات للشريعة تمثل إخلالا بوضع الأقباط.

 

اللافت أنه في ختام السبعينيات، توحدت الجماعات الدينية والقوى السياسية والكنيسة، في موقف رافض للتطبيع مع إسرائيل، ثم صدام شهير مع السادات، تم تحديد إقامة الأنبا شنودة في الدير، واعتقال رموز الجماعات الدينية والسياسية في سبتمبر عام 81، اللافت أيضا أن مبارك أفرج عن رموز التيارات الإسلامية والسياسية في بداية حكمه ورفض الإفراج عن البابا إلا بعد 5 سنوات.

 

بعد أن خرج البابا قرر أن يغير استراتيجيته الصدامية إلى لغة أكثر هدوءا، واستمر التدين الحركي الإسلامي في صيغته الجهادية في ممارسة العنف والاحتجاج، إلى أن حدثت مراجعات لهذا المنهج في الثمانينيات والتسعينيات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.