شعار قسم مدونات

ربيع العدالة والتنمية.. انتهى!

مدونات - عبد الإله بنكيران

كان واضحا منذ السنة الماضية أن الهدف الإستراتيجي الذي أصبح يهيمن على النظام المغربي في تلك المرحلة هو أولوية إضعاف حزب العدالة والتنمية عبر إحداث شرخ واحد أو أكثر داخله قبل أي موعد انتخابي، لأن حويصلة الدولة لم تعد تقبل ذلك المد الانتخابي لحزب إسلامي يستفيد من ضعف الأحزاب المتنافسة أكثر من كفاءة محركاته الذاتية ومنها جناحه الدعوي والشبابي والنقابي وجمعيات العمل الاجتماعي.

هذا الهدف تكرس داخل أجهزة الدولة لأن الحزب الإسلامي المغربي ظل يمثل استثناء من القاعدة السياسية في معادلة المشاركة في السلطة، حيث إن القاعدة تقول: إن الحزب الذي يتورط في الحكومة يفقد شعبيته باستمرار الزمن الذي يقضيه في أجهزة الدولة والجماعات المحلية، وهكذا حتى يتحول الحزب إلى صاحب شرعية إدارية عندما تنتهي شرعيته الشعبية والبنيوية. لكن الحزب الإسلامي شد عن هذه المُسلّمة، فهو لا يتراجع جماهيريا أو يضعف انتخابيا بإزاء ملامسته لأجهزة الحكم بل يتقدم بشكل متواصل، فقد انتقل من 9 مقاعد برلمانية بعد تشريعيات 1997 إلى 107 بعد تشريعيات 2011، ورغم أخطاء التدبير والخيارات المؤلمة التي تحملتها حكومتهم الأولى انتقل الحزب إلى 125 مقعدا في سنة 2016 رغم كل الجهود الاستثنائية التي بذلتها وزارة الداخلية لتحجيمه.

ورغم كل وسائل الضبط والضغط لم يغادر الحزب موقعه المتقدم في المشهد الحزبي والإعلامي وهو ما أغضب صناع القرار لأنهم اقتنعوا أن حزب العدالة والتنمية قد تكيّف بسرعة مع بيئة النظام وبدأ يخلق داخله صراعات بينية توشك أن تهدد كفاءة النظام بسبب عدم قدرة معالجه المركزي على تدبير الموارد المطلوبة والعمليات المتداخلة، فانتقل التنازع إلى داخل بيئة النظام الذي بدأ يفرز أخطاء في التدبير وفي حل المشاكل.

اقتنع عبد الإله بن كيران، على مضض، بأنه ليس استثناء من قاعدة منهجية كان سببا في غرسها داخل بيت الحركة ثم الحزب فسلم الحزب للعثماني ثم اختفى عن الأنظار ودخل في اعتكاف مع نفسه

إزاء كل ذلك قرر النظام تفعيل البرنامج التشغيلي لإنهاء قوة الحزب، فأعفى عبد الإله ابن كيران في منتصف مارس 2017 بذريعة عجزه عن تشكيل حكومة في مدة تجاوزت الستة أشهر. حيث لم ينتظر النظام ابن كيران ليعلن فشله في تكوين ائتلاف حكومي مُتمّنع، بل أعلن هو عن فشله وأسند تشكيل الحكومة إلى أخيه في الحزب سعد الدين العثماني قبل أن يقول الحزب كلمته في الإعفاء وفي البديل الحزبي لرئيسه المُقال.

الصدمة السياسية لم تكن فقط بسبب الإعفاء الذي أصاب الحزب في رأسه ولكن بسبب ضربات متتالية جاءتهم كصاعقة مسترسلة، فبعد إقالة عبد الإله بن كيران بيوم واحد، جاء تعيين سعد الدين العثماني، وبعد تعيينه بيوم واحد اجتمع المجلس الوطني ليعلن عن تمسكه بشروط ابن كيران في تفاوضه مع عزيز أخنوش الذي يتكلم باسم أربعة أحزاب، وبعد أيام قليلة سيعلن العثماني بأنه في حل من التزامات المجلس الوطني وأن شروط ابن كيران لا تلزمه إن كان الحزب يريد الاستمرار في التجربة الحكومية، ثم توالت التنازلات من طرف الأمانة العامة للحزب ومن طرف سعد الدين العثماني من أجل إرضاء العدو الصديق عزيز أخنوش والظفر بحكومة جديدة يترأسها حزب العدالة والتنمية ظاهريا ويتحكم فيها عزيز أخنوش في حقيقة الأمر.

من هنا دخلت تجربة العدالة والتنمية إلى طريق اللاعودة بسبب خطورة الخيارات التي كانت في متناولهم، فإما القبول بأي شيء يقدمه النظام في شخص عزيز أخنوش أو الرجوع إلى المعارضة بأكبر فريق في مجلس النواب لكي يعارضوا القوانين التي تركها زعيمهم المُقال، أو التعبير عن رفضهم وغضبهم للابتزاز الذي يتعرضون إليه من طرف من يسمونهم بالتحكّم وهذا ما سيقطع شعرة معاوية مع النظام الذي سيبادر الغضب بغضب أكبر منه، قد يهدد حزبهم في أجنحته الدعوية والنقابية والشبابية.

ثم جاء امتحان المؤتمر الوطني للحزب وعلى جدول أعماله نقطة فريدة: التمديد؛ وهو يعني تقرير التمديد لعبد الإله بن كيران لولاية ثالثة على رأس الحزب ضدا على قوانين الحزب لعل الرجل المُبعَد يعيد الحزب إلى مساره الصحيح! كما يعني رفض التمديد للرجل بذريعة احترام قواعد الديمقراطية وبالتالي تسليم الحزب لرهانات التجربة الحكومية لسعد الدين العثماني. التمديد كان حلما للشبيبة الحزبية ورفضها كان حقيقة يتزعمها شيوخ الحزب ويتكلم باسمهم وزراء الحزب.

وقد عبر قيدوم الوزراء في الحزب، مصطفى الرميد، على الحقيقة المرة التي تحملها رسالة التمديد إلى النظام المغربي فقال: "إن فتح الطريق أمام ابن كيران نحو ولاية ثالثة على رأس الحزب هو رسالة سلبية لمن يهمهم الأمر.. وإن التمديد له سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه". وهذه الحقيقة هي قاعدة في المنهج السياسي لحزب العدالة والتنمية لا يختلف عليها اثنان لولا أن المعني بها في هذه النازلة هو نفسه من أصّل لها وربى عليها إخوانه في الحركة والحزب منذ عقود.

وقد طبقها عبد الإله بن كيران في مرات عديدة لما كان على رأس الحركة الاسلامية والحزب السياسي. كانت تلك القاعدة هي التي بها أبعد رئيس الحركة السيد الريسوني في سنة 2003 بسبب تصريح له فُسر بأنه تجرؤ على الملك، وهي القاعدة نفسها التي جعلتهم يشيطنون حركة 20 فبراير، وهي القاعدة نفسها التي دفعت عبد الإله بن كيران للموافقة على إبعاد أخيه العثماني من وزارة الخارجية بسبب تداخلٍ بين السمت الإخواني الذي يمثله الوزير مع السحنة النظامية التي يشترطها مقام المسؤولية، وهي القاعدة نفسها التي بها برر عبد الإله بن كيران قبوله بإملاءات صندوق النقد الدولي لتنزيل خطة إصلاح نظام التقاعد ونظام الدعم المتعلق بالمحروقات وبأسعار المواد الأساسية ورفض الحوار الاجتماعي مع النقابات.

يُنتظر أن ينتقل أخنوش من المطالبة بإبعاد وإسكات ابن كيران إلى اشتراط رأسه؛ على أساس أن هذا الأخير يشوش على الحياة السياسية وعلى التحالف الحكومي المُهدَّد
يُنتظر أن ينتقل أخنوش من المطالبة بإبعاد وإسكات ابن كيران إلى اشتراط رأسه؛ على أساس أن هذا الأخير يشوش على الحياة السياسية وعلى التحالف الحكومي المُهدَّد
 

اقتنع عبد الإله ابن كيران، على مضض، بأنه ليس استثناء من قاعدة منهجية كان سببا في غرسها داخل بيت الحركة ثم الحزب؛ فسلم الحزب للعثماني ثم اختفى عن الأنظار ودخل في اعتكاف مع نفسه لمدة ليست بالقصيرة، وارتاح الإخوان من حمل ثقيل وظنوا أن متاعب الحزب ستنتهي بإبعاد ابن كيران باعتباره ظاهرة صوتية مزعجة أو زعيم مشاكس.

كان العنصر التالي في مخطط النظام لإضعاف العدالة والتنمية مُعدّا منذ تعيين العثماني على رأس الحكومة وعلى رأس الحزب، لكن ستجري رياح بما لا تشتهيه سفن الدولة؛ حيث تجدرت احتجاجات في شمال المغرب وهي الموسومة "بحراك الريف"، ثم تبعتها احتجاجات بجنوب المغرب ووسطه في كل من زاكورة وقلعة السراغنة..، تلك الاحتجاجات وغيرها وضعت المخطط في حالة الكمون وأظهروا تعايشا بين حلف عزيز أخنوش وحلف العثماني مع حزب التقدم والاشتراكية. ورغم ذلك التعايش الهش وقعت ضربة تحت الحساب ضد حليفهم عندما أقال الملك وزراء من حزب التقدم والاشتراكية على رأسهم رئيس الحزب نبيل بنعبد الله وذلك على خلفية اختلالات في مشاريع مدينة الحسيمة منار المتوسط، فاكتشف الإخوان أن النظام بصدد مناورة جديدة على المدى المتوسط، لكنهم استفادوا مجددا من حركية الاحتجاج الشعبي والفئوي من أجل تأجيل المناورة إلى ما بعد هدوء الشارع المغربي.

ثم تصاعد احتجاج مدينة جرادة في شرق المغرب بسبب حالة الفقر المدقع وغياب فرص الشغل بعد إغلاق ممنهج للمنجم الوحيد للفحم الحجري بالمدينة. هنا -وعلى غير العادة- سيستغل حزب التجمع الوطني للأحرار بسرعة تصريحا لابن كيران، ينصح فيه رئيس الحزب عزيز أخنوش بخطورة الجمع بين السلطة والثروة، ليأمر الحزب وزراءه بمقاطعة اجتماع أسبوعي لحكومة العثماني، كما قاطعوا زيارته لمدينة جرادة التي لم تخْب فيها الحركة الاحتجاجية. بعد هذه الواقعة يُنتظر أن ينتقل أخنوش من المطالبة بإبعاد وإسكات ابن كيران إلى اشتراط رأسه؛ على أساس أن هذا الأخير يشوش على الحياة السياسية وعلى التحالف الحكومي المُهدَّد، وهذا يعني أن كل أمل في رجوع ابن كيران إلى رئاسة الحزب بعد انتهاء ولاية العثماني بات من سابع المستحيلات في النظام السياسي الحالي.

إزاء كل الضربات القوية التي ما زال يتعرض إليها مشروع حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح؛ تثور ثلاث انفعالات في صفوف أبناء الحزب السياسي والحركة الإسلامية، يقول أصحابها:
* تغيرت أمور كثيرة منذ شعار البديل الإسلامي ويجب علينا تحديث المشاريع وعقْلنتها وعَلْمنتها لكي تتناسب مع الواقع الجديد.
* ذهب زمان التكتلات المذهبية والهوياتية وأصبح مفروضا علينا الذوَبان في المجتمع ودفن نظرية الجماعة.
* السياسة الغول والدعوة الملاك لا يجتمعان، وخير لنا الاستمساك بالدعوة على أن يأكلها الغول. 

العقل الإسلامي في العدالة والتنمية لن يتجاوز بسهولة هذه الاحتمالات الثلاثة كلما فكر في وضع تصورات منطقية لكي يقترب من الحقيقة المرّة؛ التي تضغط عليه لكي يقبل بالمراجعات المرنة والقيصرية التي تجعله بدون هوية على هاوية السلطة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.