شعار قسم مدونات

سرقات تصنع نجوما

مدونات - وسيم يوسف 11

قبل يومين أصدرت محكمة سعودية قرارا بتغريم داعية معروف مبلغا ماليا كبيرا بدعوى انتهاكه حقوق الملكية الفكرية لكاتب آخر، عبر تقديم محتوى كتابه نصا حرفيا في برنامج إذاعي من إعداد ذلك الداعية، دون الإشارة إلى مصدره، وسبق للداعية نفسه أن اتهم بالأمر ذاته في حالات سابقة تنوعت تفاصيلها ما بين انتحال كتاب عائد لكاتب آخر، أو قصائد وأبيات شعرية ونسبتها لنفسه مع بعض التحوير والتحريف، آخرها بضعة أبيات كتبها في مديح ولي العهد السعودي (محمد بن سلمان) بعد لقاء جمعهما، يقول فيها:

        

" كانت مقابلة الإعلام تُخبرنا *** عن ابن سلمان تروي أجمل الخبرِ

حتى التقينا فلا والله ما سمعت *** أذني بأحسن مما قد رأى بصري"

ثم تبيّن أنها من قصيدة لابن هانئ الأندلسي، ونصها الأصلي:

"كانت مُساءلَةُ الرُّكبانِ تُخبرُنَا *** عنْ جعفر بن فلاّحٍ أطيبَ الخبرِ

ثمّ التقينا فلا والله ما سمعت *** أذني بأحسن مما قد رأى بصري"

        

وقبل أسابيع تبيّن أن مقدم برنامج ديني على قناة "أبو ظبي" الإماراتية يسرق مقالات كاملة للكاتب أدهم الشرقاوي، ويقرؤها حرفيا في برنامجه المشهور، ودون نسبتها لصاحبها أيضا، بل إنه لم يخجل من فعلته عند انكشاف أمره بل تبجح مقارنا شهرته وعدد متابعي برنامجه بشهرة الكاتب الأصلي. أما الداعية السعودي فاكتفى بكتابة الآية القرآنية: "ويل لكل همزة لمزة" على حسابه في تويتر ردّا على الأخبار الإعلامية التي تناولت قرار المحكمة!

    

في عصر طغيان الإعلام وتعدد تقنيات الاتصال وسهولة البحث؛ ليس هنالك أسهل من كشف زيف المدّعين وتعرية النجومية المغشوشة لمحترفي التحايل المعرفي

ولعل أسوأ ما في الأمر أن الحالتين المذكورتين أعلاه تتعلقان بدعاة يبشرّون بقيم الإسلام وأخلاقه في برامجهم ومحاضراتهم؛ لأن كثيرا من متابعيهم الذين سينكرون فعلهم بانتحال النصوص لن يَفْصلوا بين الصورة وصاحبها، وبين الفكرة والناطق بها، بل سيُنشِئ بعضهم تماهيا بين الإسلام والداعين إليه، دون الانتباه إلى خطورة التعميم الذي سيشمل الصادقين الأنقياء من العلماء والدعاة، أو الالتفات إلى حقيقة أن بعض المصنّفين دعاة يتاجر بأفكاره طمعا في مكاسب خاصة، أو تزلّفا إلى بعض الطغاة المحتاجين في كل زمان ومكان إلى وعّاظ يمنحون سياساتهم رداء شرعيا.

      

ولعلها ليست مصادفة أن يكون محترفو السطو على نتاج غيرهم منحصرين في بطانة الحكام أو المروجين لهم والداعين لهم بطول العمر والإفساد، فعدم التورع عن تزييف النصوص سيفرز بالضرورة جرأة على تزييف الوعي، واستهانة بعقول الناس، وعبثا بحقوقهم على اختلاف أنواعها، وتجميلا للقبائح حتى لو كانت طغيانا وإفكا مبينا.

    

إن السرقات الأدبية والفكرية ليست ظاهرة عصرية، فمنذ كان هناك أدب وفكر؛ وُجِد أيضا من يسطو على النصوص ويدعي تأليفها، وهنالك حتى الآن قصائد عديدة في التراث العربي تختلف الروايات حول مُنشئها الأصلي، منها القصيدة المشهورة (اليتيمة) وهي من عيون قصائد الغزل العربية، وقيل إنه قد تنازع على ادعاء نظمها نحو أربعين شاعرا.

    

لكن هذا النوع من السرقة في زماننا صار سبيلا سهلا لصناعة النجومية الزائفة، وحشد المعجبين والمتابعين، ولا يقتصر السطو الفكري على المشاهير، فهناك شخصيات عادية قد أسست نجوميتها على نصوص منتحلة بالكامل تنشرها بجرأة ودون أن ترى حاجة للإشارة إلى كونها منقولة، أو نسبتها لأصحابها، لكن السطو الفكري لدى المشاهير مثلبة مضاعفة، وخاصة من لبسوا ثياب الدعاة، لأن هذا الفعل مناقض للأمانة العلمية، ولقيم الصدق والإخلاص والمروءة، ولأنه يسيء لأفكارهم قبل أن يقدح في إخلاصهم ونيّتهم.

    

وإن كان طبيعيا وعاديا أن يستعين الداعية بنتاج آخرين عند التحضير لبرامجه المسموعة والمرئية، وأن يحضّر لمادته من مصادر شتى، فليس هناك ما يبرّر أخذ نصوص كاملة وقراءتها حرفيا خلال تلك البرامج، ودون نسبتها لأصحابها الحقيقيين، وكل المبررات التي يقدمها أنصار هؤلاء (النجوم) لن تفلح في تجميل أفعالهم.

    

في عصر طغيان الإعلام وتعدد تقنيات الاتصال وسهولة البحث ليس هنالك أسهل من كشف زيف المدّعين وتعرية النجومية المغشوشة لمحترفي التحايل المعرفي، ومثلما أن للشهرة بريقها وسحرها اللذين قد يغريا بتجاوز كثير من أعراف الأمانة والمصداقية، فإن لتلك الشهرة ضريبتها أيضا، فلا بدّ أن يكون دائما بين ملايين المتابعين التي يتفاخر بها نجوم زماننا بعض المتيقظين ممن لا يميلون كل الميل في إعجابهم، ولا يقرّون كل فكرة دون تمحيص، ولا يكتفون بالتصفيق الأعمى لخبراء تزوير النصوص والعقول من مشاهير العصر، مهما كانوا حاذقين ومهرة في صنعتهم هذه.

   

إن كل فكرة لا تنبعث من قلب صاحبها، ولا تصادق شعوره الحقيقي، ولا تقيم في نفسه أولا مصيرها البوار، ولو بعد حين، وصدق الله القائل: "كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.