شعار قسم مدونات

هل تحمل كرتونة جامعية؟

blogs - التخرج
قبل عقدين من الزمان، أذكر كيف عدت مساء للسكن الجامعي، وما إن دخلت حتى استرعى انتباهي وجود تنكة زيت وأخرى ممتلئة بالمقدوس، وعندما تساءلت عن السبب، أجابني زميلي بضحكة ساخرة: هاتان كفيلتان بإيصالي للحدود العليا للعلامة في المساق الجامعي! بداية لم أصدق، إلا أن سيل المعلومات بعيد ذلك بسنوات عدة أوصلني إلى حالة الإحباط الأكاديمي، حيث إنني لم أتفاجأ عندما قام حارس إحدى السفارات العربية بإهانة طابور كامل من حملة الشهادات العلمية بحجة الاصطفاف!
 
واليوم إن أردنا تسليط الأضواء على الحال فينبغي أن نبدأ من حيث انتهى التصنيف الدولي لجامعات العالم الصادر في تموز الماضي، وأظهرت بيانات هذا المؤشر العالمي مقدار النكوص والتراجع الشديدين في مستوى الجامعات العربية على سلم الجامعات العالمية، وكالمعتاد تفوقت الجامعات الأميركية، وكذا الحال مع الجامعات الصهيونية على صعيد الشرق الأوسط، وفي الإطار العربي جاءت الجامعات السعودية في المرتبة الأولى.
 
ويشرف على إصدار هذا المؤشر موقع "ويبومتريكس" المتخصص في ترتيب الجامعات، ويصدر بصورة نصف سنوية من مختبر "سايبرمتريكس" (المجلس الوطني الإسباني للبحوث) لتوفير معلومات محدثة وموثقة ومتعددة الأبعاد عن أداء الجامعات العالمية، وفق وجودها على شبكة الإنترنت، مع الأخذ بعين الاعتبار أنشطة الجامعة ومخرجاتها، وفاعليتها وفق معايير التواجد والانفتاح والتأثير والتميز البحثي. 
 

ما يحزن حقا في الأداء العلمي أنك تجد الحاصل على الشهادة الجامعية يتوقف منقطعا عن الاستمرار في التقدم العلمي، ويكتفي بنيل الشهادة ثم يقف وربما نلتمس له عذرا

وفي كل مرة تأتي الهيمنة الأميركية على نتائج المؤشر وتأتي جامعة هارفرد العريقة في الصدارة دون منافس، وتأتي جامعة أكسفورد في المرتبة الأولى أوروبيا، وجامعة طوكيو آسيويا، وجامعة كيب تاون أفريقيا، وجامعة ملبورن الأسترالية في أوقيانوسيا.

 
وفي واقع الحال بعيدا عن الانحياز للغرب وجلد الذات، وما سار في هذا النسق،  ينبغي التذكير بأن من جاءت في مؤخرة المؤشر من دولنا العربية لا تلقي بالا للإنفاق على البحوث العلمية بقدر ما يهمها الاستمرار في التوظيف السياسي للبروباغندا والإعلام والرياضة في سبيل إلهاء الشعوب عن متابعة الفشل السياسي العربي، والإنشغال بالتدجين عبر سلسلة الاحتفالات والمسابقات والمهرجانات، وما إلى ذلك.
 

تسليط الأضواء (focusing)

طوال القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، ماذا عن مخرجات جامعاتنا من العرب الحاصلين على جائزة نوبل؟ دعونا نتأمل القائمة التالية:
بيتر مدور طبيب بريطاني من أصول لبنانية حصل عام 1960 على نوبل في الطب، والسادات عام 1978 نوبل للسلام، ونجيب محفوظ 1988 للأدب، وإلياس جيمس خوري الكيميائي الأميركي من أصل لبناني عام 1990، وياسرعرفات عام 1994 نوبل للسلام، وأحمد زويل عام 1999 الكيمياء، ومحمد البرادعي 2005 الحد من انتشار الأسلحة النووية، وتوكّل كرمان عام 2011 حقوق المرأة.

 
في كل مرة يصور الإعلام الموجّه في مسيرته التعليم بأنه نهضوي، ويمارس الدفاع عن كثيرين ممن تخرجوا يحملون شهادات أقرب ما تكون إلى التزوير، بحر من القطع الكرتونية والشهادات الوهمية  تنساب في متوالية هندسية مؤلمة، تشهد بالطامة الكبرى التي وصلت إليها بلاد العرب أوطاني، في وقت يأتي التسبيح بحمد الدولة العميقة دولة المديونية والترهل والرجعية، وتأليه متوالية الخطأ وتبرير مسارات الإخفاق، وكأن هارفرد وأكسفورد موجودتان في  نطاق الجغرافيا العربية.
  

 بيتر مدور (مواقع التواصل)
 بيتر مدور (مواقع التواصل)

 
إن مجرد طرح النقد البناء في نظر الحرس القديم، هو فعل مضاد لارتقاء الوطن، لذا لا يتاح إبداء النقد ضمن الهوامش التي يتم المنّ بها على الرعية تحت ستار يدّعي الديمقراطية، فالنقد وفق ذلك التوصيف عمل عدائي يساهم في ديمومة تراجع المسيرة، ولك كامل التأمل في المشهد المفضي لتوصيف أشباه العلماء.

يتسيد خشبة المسرح غالبا سحرة فرعون ممن قاموا بشراء الشهادات الأكاديمية ضمن أقصوصة مللنا من تكرارها، ولعل اكتشاف الكثير من الشهادات في عدة مواقف متكررة يظهر المدى الذي وصل إليه تزييف الشهادات العلمية، ولعله يأتي قبل فوات الأوان.
ما يحزن حقا في الأداء العلمي أنك تجد الحاصل على الشهادة الجامعية يتوقف منقطعا عن الاستمرار في التقدم العلمي، ويكتفي بنيل الشهادة ثم يقف وربما نلتمس له عذرا؛ فاكتساب الرزق يتطلب هجران الكماليات ومنها الثقافة، وما عليك سوى إخضاع هؤلاء لاختبارات محددة في تخصصاتهم وستشاهد العجب العجاب. وبخصوص الأبحاث العلمية فبداية ينبغي التعريف بها وهي: الأنشطة والتقنيات والأدوات التي من شأنها تقصي الظواهر بهدف الرقي المعرفي وتوظيفه في الميادين التنموية، وفي الإطار العملي نجد عدة إحصاءات صادرة عن اليونسكو في السنوات الماضية، لم يرد فيها ذكر جامعاتنا ضمن الـ 500 الأوائل، فماذا بقي من جامعات العالم؟!
 
المغرب العربي الذي يضم أقدم جامعتين في العالم الإسلامي، الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب الأقصى، حلت جامعاته في ذيل ترتيب كيو إس

لنجد أن الإنفاق العلمي قليل والباحثين بأعداد متدنية، وبراءات الاختراع دون المقبول، والمؤلفات في أدنى المستويات، وكذا الحال بالنسبة للأبحاث المحكمة، وأعداد الباحثين تمثل ما مقداره حوالي 1.8 في المائة من عدد الباحثين في العالم، وفي ما يتعلق بحجم الإنتاج العلمي في دولنا، أشارت التقارير إلى أن مجموع براءات الاختراع المسجلة في العالم العربي في الأعوام الماضية تكاد تصل لبضع مئات، بينما يصل عددها في كوريا الجنوبية وحدها 57،968 براءة اختراع. ويصل عدد المؤلفات بالعربية والمترجمة إليها في الألف سنة الماضية لعشرة آلاف كتاب وهو يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة فقط، وما زال في الذاكرة التصريح المفجع الذي أدلى به أحمد زويل  ذات مرة بأن ما ننتجه من المعارف الإنسانية لا يتجاوز 0.0002 في المائة من الإنتاج العالمي.

 
وعلى الرغم من صعوبة إيجاد معيار واحد وواضح لقياس مدى جودة التعليم في الجامعات حول العالم، والتصنيفات التي تظهر سنويا كالترتيب الأكاديمي للجامعات العالمية المعروف باسم ترتيب شنغهاي، وتصنيف التايمز لجامعات التعليم العالي العالمية، إلا أن الأداء الأكاديمي العربي يستمر في تراجعه غير المحمود، وإن جاء تصنيف "كيو إس" للجامعات العالمية ليدغدغ عواطفنا؛ إذ يشير لجامعة الملك عبد العزيز في المرتبة الأولى عربيا، أما الجامعة الأميركية في بيروت فتصنف على أنها الأعرق من بين الجامعات العربية، وضمن الـ 600 جامعة الأولى في العالم لا نجد سوى سبع جامعات عربية، ومنها الجامعة الأميركية بالقاهرة وهي من أعرق الجامعات العربية التي خرجت المشاهير والتي تعود للعام 1919.
  
أما المغرب العربي الذي يضم أقدم جامعتين في العالم الإسلامي، الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب الأقصى، فقد حلت جامعاته في ذيل الترتيب. في ظل عدم مجانية التعليم في بعض الدول العربية يعد حصولك على مقعد جامعي بمثابة إنجاز، ويصبح التعليم الجامعي أقصى أماني الشباب العربي، وعليك أن تسأل العم (google) ليجيبك عن مصداقية حكاية تزوير البيطري لشهادته والتحاقه بعمل في الجغرافيا العربية، وقد شاهدت بأم عيني كيف أن أحدهم قام بتدريس ملتحقتين بجامعة عربية في الشمال الأفريقي، وما عليهما سوى خوض ثمانية اختبارات بمكتب ارتباطها في العاصمة، وبعد ذلك تحصلا على الشهادة الجامعية الأولى، وهو مثال جيد على مقدار الضغوطات التي تمارس على المدرس الجامعي، وبالتالي تتجلى ظاهرة المتاجرة بالعلم التي تتيح نيل الكرتونة دون أدنى جهد علمي يذكر، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.